تتعايش الأضداد في أعمال دوستويفسكي: الشياطين مع الملائكة، والنفوس المجرمة مع الأبرياء. كل عمل لديه هو صراع بين المشاعر والأفكار المتناقضة. ويعالج موضوعات هي في صلب حياة العصر الذي عاشه واختبر تقلباته، الحرية والعدمية والعبثية والثورة.

تتساءل "مجلة الفلسفة" Philosophie magazine الفرنسية في عددها الثاني والعشرين، إن كان دوستويفسكي فيلسوفاً أم لا؟ وتجيب على هذا التساؤل بالقول: "فيلسوف بالتأكيد. فهو يتعامل مع الأفكار بطريقة جديدة للغاية. لا يفرض أفكاره، ولا يختم حكاياته بحكمة رفيعة. يمكن قراءة رواياته كسلسلة من الحوارات الفلسفية، حيث تتعارض وجهات النظر، وحيث يتم دائماً ذكر الحقيقة الخاصة بكل موقف، لأنها تتوافق مع مرحلة في تطور وعي الشخصية. مساهمة دوستويفسكي في تاريخ الفكر متعددة الجوانب: سبق نيتشه وفرويد بتحديد الدوافع النفسية اللاواعية وراء الأيديولوجيات والمذاهب. ويُقدم بعضاً من أكثر التفسيرات شمولاً حول وجود الشر على وجه الخليقة، وهذا هو الجانب اللاهوتي من تفكيره.. في سياق قرن الفلسفة الوضعية والعقلانية، يسعى الروائي الروسي إلى تفكير أكثر قتامة، ولكنه أيضاً أكثر وضوحاً، في الطبيعة البشرية".

كانت حياته المُعذبة مصدر الإلهام الرئيسي له: شخصياته تشبهه، فهي غالباً ما تعاني، ويمزقها التفكير، ويعانون من الذنب. وكما يقول ألبير كامو "كل الشخصيات لدى دوستويفسكي تتساءل عن معنى الحياة، لهذا فهي مُعاصرة، لم تكن تخشى أن تكون سخيفة أو مُضحكة".

صحيح أن النص الذي خصصه فرويد للحديث عن دوسـتـويفسكي كان قصيراً، لكنه يعتبر في الوقت نفـسـه واحداً من أعمق ما كتب صاحب "علم الأحلام" و"الهذيان والأحلام في الفن" عن أديب أو فنان. ذلك ان ما أعطـانا إيـاه فـرويد هنا هو مفتاح لفهم شخصية الكاتب الروسي على ضوء بعض أعماله، وأكثر من هذا: مفاتيح آتية مـن أعـمال دوسـتويـفـسكي نفـسـها.

كتب فرويد مقالاً بعنوان "دوستويفسكي وقتل الأب" وهو مقدمة لدراسة عن رواية "الإخوة كارامازوف". المال، الأسرة، الإرث، المرأة، الدين.. موضوعات اشتغل عليها دوستويفسكي ونسج منها رواية "الإخوة كارامازوف" التي اعتبرها سيغموند فرويد أعظم رواية كتبت على الإطلاق، وجعلها منطلقاً مهماً لتحليلاته النفسية. بدأ فرويد كتابة مقالته "دوستويفسكي وقتل الأب" سنة 1926 ولم ينته منها إلا سنة 1928 بعد تردد طويل. هو نص يعالج موضوعات قتل الأب، عقدة أوديب، والإحساس بالذنب، ربط فيه فرويد فكرة قتل الأب بفكرة التماثل معه؛ فالكره الذي يجعل الابن يرغب في قتل أبيه يرتبط عموماً بإعجاب خفي تجاه هذا الأخير. إن الطفل يريد أن يأخذ مكان أبيه ليس فقط لأنه يكرهه ويريد إبعاده، وإنما كذلك لأنه معجب به وبمكانته، ويريد أن يأخذها. ويرى فرويد أن ما يجعل الابن يتراجع عن فكرة القتل هو الخوف من العقاب المتمثل في الإخصاء، وأن التراجع عن هذه الفكرة يولد إحساساً بالذنب لدى الطفل.

وإذ يستفيض فرويد هنا قائلاً إن جريمة قتل الأب هي الجريمة الأولى في البشرية، ينتقل بعد حين إلى عقدة أوديب ومنها إلى "الإخوة كارامازوف"، ليقارن بين قتل الأب فيها، وبين قتل الأب في "هاملت" شكسبير. ففي حين تحرص مسرحية "هاملت" على ألا يقتل الأب بيد الابن بل بيد شخص آخر (إسقاطياً)، تخطو رواية دوستويفسكي خطوة أبعد: صحيح أن الجريمة ترتكب هنا أيضاً بيد شخص آخر؛ لكن هذا الشخص هو، أيضاً، ابن الأب المقتول، ويخضع لتأثيرات عنيفة من قبل ابن آخر له. فإذا أضفنا إلى هذا "تعاطف دوستويفسكي مع القاتل تعاطفاً لا حدود له" يصبح من المنطقي اعتباره ينظر إلى القاتل كـ "مخلص".

أسقط فرويد هذه المفاهيم والأفكار على الكاتب، فخلص إلى أن دوستويفسكي يملك شخصية إجرامية بامتياز، ذلك أنه اختار لروايته شخصيات عنيفة، مجرمة، هدّامة وأنانية (ديمتري، سمردياكوف، إيفان)، وعزز رأيه هذا بوقائع مرتبطة بسيرة دوستويفسكي: الإدمان على القمار والاعتداء الجنسي الذي اتهم بارتكابه. يتعامل فرويد في نصّه مع صرع دوستويفسكي وصلته بتخيّلات وإدراكات الشخصيّات في الرواية. وهو يميّز في دوستويفسكي: "الكاتب، والعُصابي، والأخلاقي، والمخطئ". يرفض فرويد اعتبار دوستويفسكي آثماً أو مجرماً "فهناك سمتان أساسيّتان في المجرمين: تمركُز غير محدود على الذات ونزعة هدامّة قويّة، إلا أننا نجد لدى دوستويفسكي قدرة هائلة على الحب وحاجة كبيرة له" كما يشير فرويد. ووفقاً لدارسي دوستويفسكي فإنّ روايته "الإخوة كرامازوف" هي أكثر فرويديّة من قصة "الملك أوديب" لسوفوكليس، ومسرحيّة "هاملت" لشكسبير، لأنها تقدم للقارئ بدون قناع رغبة قتل الأب، أي الطابع العالمي لرغبة الأبناء الدفينة. ومما جاء في نص فرويد المذكور "الكاتب فضّل بين شخصيّاته العنيفة منها والقاتلة والأنانيّة، ولكن أيضاً فإن مثل هذه الميول كانت موجودة فيه خلال حياته، كما يتجلى لديه ذلك في شغفه بلعب القمار، أو ربما في الاعتداء الجنسي على فتاة صغيرة. كان من الممكن أن تجعله دوافعه المدمرة مجرماً، لكنها كانت في حياته موجهة بشكل أساسي ضد شخصه وليس خارجياً، ويتم التعبير عنها في شكل من المازوخية والشعور بالذنب. لكن عندما تمارس تجاه الآخرين، تكون لها سمات سادية، تتجلى في القابلية المفرطة بالشك، وعدم التسامح، والشغف بتعذيب كل من الأحباء والقراء".

ويصنفه فرويد في مكان ليس بعيداً عن شكسبير، خاصة بفضل روايته "الإخوة كارامازوف"، وبفضل قصة "المحقق الأكبر" التي تأتي كفصل مستقل في هذه الرواية، التي يعتبرها واحدة من أعلى القمم في الأدب العالمي.

واعتمد فرويد على رواية "المقامر" وبعض الأعمال الأخرى لدوستويفسكي، للوصول إلى ما يصل اليه من استنتاجات. ولعل من أطرف وأغرب هذه الاستنتاجات ما يتعلق بـ "مرض الصرع" الذي قيل دائماً إن دوستويفسكي كان يعاني منه. فهنا يفيدنا فرويد، في فقرات هي الأكثر مدعاة للسجال والاستغراب، بأن دوستويفسكي كان "يعتبر نفسه ذا صرع، كما أن الناس كانوا يرونه كذلك نظراً لنوبات الصرع الحادة التي كانت تأتي لديه مصحوبة بغياب الشعور، إضافة إلى تصلبات عضلية يتبعها هبوط". والآن - يقول فرويد – "أصبح من المحتمل أكثر أن ما كان يسمى صرعاً لدى فرويد، لم يكن إلا عرضاً من أعراض عُصابه، وينبغي أن يشخص تبعاً لذلك بأنه عُصاب هستيري، أي أنه هستيريا حادة". صحيح هنا أن فرويد - بحسب ترجمة سمير كرم لهذا النص، الصادرة عن دار الطليعة في كتاب عنوانه "التحليل النفسي والفن" – يقول: "ونحن لا نستطيع أن نكون على يقين تام من هذه النقطة لسببين: أولاً، لأن معلوماتنا عن تاريخ صرع دوستويفسكي المزعوم قاصرة وغير موثوق بها، وثانياً، لأن فهمنا للحالات المرضية المرتبطة بنوبات ذات مظهر صرعي فهم ناقص"، لكنه سرعان ما يفيدنا من خلال تحليل نصوص دوستويفسكي، أن هذا الصرع لا يمكنه أن يكون مرضاً عضوياً حقاً. وحينما يتوقف فرويد عند دلالة العلاقة بين الصرع وبين الموت، يفيدنا إثر تحليل مستفيض أن هذا النوع من النوبات تصبح له قيمة العقاب بالتدريج ما يعني أن صاحب النوبة يكون في الأصل راغباً في موت شخص آخر، ليصل إلى الرغبة في أن يكون هو هذا الشخص. والنتيجة؟ هذه النوبة هي عقاب للذات على رغبة في الموت موجهة ضد أب مكروه.

خطوة سيكولوجية

ومن قتل الأب، بحسب التحليل الفرويدي، إلى الانغماس في القمار، خطوة سيكولوجية واحدة، قد يبدو وجودها مستغرباً، لكن فرويد يخطوها في هذا البحث القصير دونما وجل. فيقول لنا: "لقد ألقى نشر كتابات دوستويفسكي بعد وفاته، ونشر يوميات زوجته، ضوءاً ساطعاً على حادثة مهمة في حياته، أعني الفترة التي قضاها في ألمانيا، حينما كان مدفوعاً إلى هوس المقامرة". وهذا الهوس نجده في الحقيقة، في أعمال عدة لدوستويفسكي، لكننا نجده خاصة في رواية أساسية له هي "المقامر". وإذ ينقل فرويد عن الكاتب الروسي قوله في إحدى رسائله: "أقسم أن التوق إلى المال لا شأن له عندي بلعب القمار، على رغم أن الله نفسه يعلم كم أنني في حاجة إلى المال"، يصبح من المنطقي للمحلل النفسي أن يبحث عن النزوع إلى القمار لدى دوستويفسكي في مجالات يمكن أن تخضع للدراسة النفسية: وهكذا يرى فرويد أن القمار كان بالنسبة إلى الكاتب "طريقة أخرى لمعاقبة الذات". وللدلالة على هذا، لا يفسر لنا فرويد رواية دوستويفسكي، بل إنه يستمد التفسير من رواية لكاتب آخر هو ستيفان زفايغ، الذي كان أصلاً قد خص دوستويفسكي بدراسة. وهكذا، إذ يقارب فرويد بين الكاتبين، يعود إلى تحليله لدوستويفسكي وعلاقة طفولته بالقمار وبمعاقبة الذات ليختم قائلاً: "لن ندهش إذا اكتشفنا أن هذا الهوس بالمقامرة يشغل مكاناً كبيراً كهذا في حياة دوستويفسكي. ونحن لا نجد - بعد كل هذا - حالات من العصاب الشديد لم يلعب فيها الإشباع الشبقي الذاتي في الطفولة والبلوغ دوراً ما. والعلاقة بين الجهود التي تبذل لقمعه والخوف من الأب، معروفة جيداً حيث لا تحتاج إلى أكثر من أن تذكر".

إن فرويد، الذي كتب معظم دراساته في التحليل السيكولوجي للفن في مرحلة متأخرة من حياته، كان ينطلق من سؤال جوهري هو: ما هي إمكانات التحليل النفسي في تفسير الأعمال الأدبية والأعمال الفنية بوجه عام؟ وهو أوصل الجواب إلى وضعية بينت أن "الفرويدية لا تكتفي بالبحث عن توكيد لأطروحاتها في الأعمال الفنية، ولا بأن تطبق على الشخصيات التي أبدعتها مخيلة الفنان قوانين الحياة النفسية لدى العصابيين، بل تتطلع إلى تفسير عملية الإبداع الفني بالذات وإلى بيان الكيفية التي بها بنى الفنان عمله". وما هذا النص عن دوستويفسكي، سوى دليل على هذا التوجه الذي سار فيه سيغموند فرويد (1856 - 1939)، في مرحلة متقدمة من تطوره، هو الذي "اكتشف" التحليل النفسي واضعاً عشرات النصوص التي لا تزال حية إلى اليوم.

ولا بد أن نعرج ضمن هذا السياق نحو نيتشه, ففي إحدى رسائله يتحدث عن الكاتب الروسي دوستويفسكي "حدث التقارب الغريزي على الفور, كانت فرحتي كبيرة، يجب أن أعود إلى لقائي مع "الأحمر والأسود" لستندال لأتذكر فرحة بهذا الحجم". بينما سر إعجابه بدوستويفسكي يأتي من حقيقة أن "نيتشه الفيلسوف وجد نفسه في مواجهة مؤلّف قادر على تمثيل الشخصيات التي توضح تماماً ما كان يدور في ذهنه". وفي رسالة أخرى يقول: "أنا أحترمه لكون أعماله تمتلك أغنى مادة نفسية أعرفها، وأنا ممتن له رغم كل الكراهية التي يلهمها في أدنى غرائزي". ويعترف أنه تعلم منه ما تعلم من باسكال، الذي سماه بـ "المسيحيّ الوحيد المنطقي"، لكن يبدو أنه يرى دوستويفسكي لاحقاً "مُنْحَلّ موهوب".

ولم يكن فرويد ونيتشه ممن كتب وتأثر بدوستويفسكي. فقد كتب عنه أيضاً هايدغر وبول ريكور. وفي هذا الصدد يشير الكاتب إيلتشينوف ميشيل في كتابه بعنوان (الرواية والفلسفة) إلى الآتي "وقد كتبوا متأثرين بقراءته، فلم يحظ أي كاتب، لا بلزاك، ولا تولستوي ولا حتى بروست، باهتمام بهذه القوة وبهذا الاستمرار الذي حصل عليه". والمثير للاستغراب أن دوستويفسكي نفسه يعترف بأنه "ضعيف في الفلسفة لكنه قوي في حبه لها". فمعرفته الفلسفية كانت متواضعة. وهو "يفضل التعليق والتساؤل عن المعنى الأخلاقي والاجتماعي لحدث اجتماعي في الحياة اليومية، على طرح الأسئلة التقليدية للفلسفة". حتى إن المفكر الروسي نيكولا بيرديايف يقول: "إن الفلسفة الروسية والغربية تعيش منذ سنوات طويلة تحت نجم دوستويفسكي".

----

المراجع

[1] مجلة الفلسفة، العدد 22

[2] دوستويفسكي وقتل الأب، سيغموند فرويد، المجلة الفرنسية للتحليل النفسي العدد 39، 1928

[3] الرواية والفلسفة، المنشورات الجامعية الفرنسية، 1998

[4] التحليل النفسي والفن، سيغموند فرويد، ترجمة سمير كرم، دار الطليعة، بيروت، 1975