يبين كليفورد غيرتز في كتابه "تأويل الثقافات" أن نهوض المفهوم العلمي للثقافة بلغ حدّ قلب النظرة التي كانت سائدة في عصر التنوير إلى الطبيعة البشرية، ونظرة عصر التنور للطبيعة البشرية كانت نظرة واضحة وبسيطة، وقد جرى استبدال هذه النظرة بنظرة أخرى بالغة التعقيد والغموض. ومن هنا كانت المحاولة لتوضيحها، ولتركيب نظرة مفهومة لطبيعة الإنسان. وقد شكلت هذه المحاولة البنية التحتية لأي تفكير علمي حول التراث منذ ذلك الزمن.

كانت نظرة عصر التنوير للإنسان أنه كائن متسق بالكامل مع الطبيعة، وأنه جزء من النسق العام لتركيب الأشياء الذي كشفه علم الطبيعة تحت تأثير فرنسيس بيكون وبإرشاد من نيوتن، وبحسب هذه النظرة نجد أن الطبيعة الإنسانية منظمة تنظيماً دقيقاً، وتسير وفق قوانين مطردة، وهي بسيطة بساطة مدهشة تشبه بساطة الكون كما رسمه نيوتن، وقد تكون بعض قوانينها مختلفة، إلا أن الأمر يبقى أن هناك قوانين، وقد يكون بعض ثباتها عرضة للغموض بحسب الملابسات المحلية، لكنها تبقى بالفعل ثابتة لا تتغير.

إن مفهوم الطبيعة الإنسانية الذي ساد في عصر التنوير له مفاهيم أقل مقبولية، ولعل أبرز هذه المضامين بحسب الفيلسوف الأميركي آرثر لافجوي تتلخص فيما يلي: فكل شيء تكون مفهوميته أو قابلية إثباته أو ثبوته الفعلي مقصورة على أناس في عصر أو عرق أو طبع أو تراث أو ظرف معين لا حقيقة له ولا قيمة، ولا أهمية له بالنسبة إلى الإنسان العاقل، وإن الاختلافات الكبيرة والشاسعة بين البشر في المعتقدات والقيم والعادات والأعراف في الزمان والمكان على حدّ سواء، فإن هذه الاختلافات جميعها لا تحمل أي أهمية في عملية تحديد طبيعة الإنسان، وهي تراكمات بل تشويهات، تتنامى وتعطي وتبهم الطبيعة الحقيقية للإنسان، أي الجوانب الثانوية والعامة والشاملة فيه.

ولقد حاول علم الأنثروبولوجيا أن يجد طريقاً له للوصول إلى تصور قابل للحياة لطبيعة الإنسان يأخذ بالحسبان الثقافة، وطبيعة تغير الثقافة، ولا يلغيه من الاعتبار بوصفه مجرد نزوة وفكر مسبق، وفي الوقت ذاته لا يتحول المبدأ الرئيسي في البحث وهو (وحدة الإنسان في الأساس) إلى مجرد عبارة فارغة من المضمون. وإن القيام بالخطوة العملاقة في الابتعاد عن النظرة الموحدة للطبيعة الإنسانية فيما يخص دراسة طبيعة الإنسان، هي خطوة بمثابة الخروج من الجنة، إلى اعتناق الفكرة القائلة بأن التنوع في العادات عبر الأزمنة والأمكنة المختلفة ليس مجرد تنوع في الملبس والمظهر، بل إن البشر متنوعون في جوهرهم وتعبيراتهم عن هذا الجوهر.

البيولوجيا والثقافة

إن الثقافة ليست مجرد أداة تزيين للتجربة الإنسانية، بل هي شرط أساسي فيها، والقاعدة الأساسية لتفردها، وأهم الإثباتات لدعم هذا الرأي تأتينا من الدراسة الأنثروبولوجية، ومن التقدم الأخير الحاصل في فهمنا لما كان يسمى بأصل الإنسان "انبعاث الإنسان العاقل" من الخلفية البدائية العامة التي كان يعيش فيها.

والنظرة التقليدية إلى العلاقات بين التطور البيولوجي والتطور الثقافي للإنسان كانت تقول بأن الأول أي التطور البيولوجي كان قد تم قبل أن يبدأ الثاني، أي الثقافي، وقد كان التطور طبقياً منذ تطور الإنسان من الناحية الجسدية، من خلال الآليات المعتادة للتغير الجيني الوراثي والانتقاء الطبيعي، حتى وصل تركيبه التشريحي إلى المرحلة التي نشهدها اليوم، ثم ابتدأ التطور التراثي.

ونحن البشر كمخلوقات غير مكتملة أو غير منتهية نتمم أنفسنا بالثقافة، لكن ليس من خلال الثقافة عموماً بل أشكال معينة منها على درجة عالية الخصوصية (الثقافة الدوبوانية، والجاوية، والهوبية، والإيطالية، وثقافة الطبقة العليا، وثقافة الطبقة الدنيا، والثقافة الأكاديمية، والثقافة التجارية)، وإن قدرة الإنسان الكبيرة على التعلم ومرونته لطالما كانت موضع الانتباه، لكن ما هو أهم من ذلك اعتماده البالغ على نوع معين من التعلم، والوصول إلى مفهومات، وتطبيق أنظمة محددة من المعنى الرمزي.

ونحن نعيش اليوم في "فجوة معلوماتية" بين ما يقوله جسدنا وبين ما يجب علينا أن نعرفه لكي نعمل، وهناك فراغ يجب أن نملأه بأنفسنا بمعلومات تقدمها لنا الثقافة التي نعيش فيها، وإن الخط الفاصل بين ما هو مضبوط بالفطرة وما هو مضبوط بالثقافة في سلوك الإنسان هو خط غائم ومهتز، والسلوك الإنساني المعقد برمته هو ناتج عن التفاعل بين هذين القطبين الضبط الفطري والضبط الثقافي.

الثقافة والعقل

يعتمد الدماغ الإنساني اعتماداً كلياً على الموارد الثقافية في عمله، وهذه الموارد ليست مجرد ملحقات ثانوية في النشاط العقلي، بل هي من مكوناته، والحقيقة أن التفكير بوصفه عملاً جهرياً علنياً تدخل فيه استعمالات هادفة للمواد الموضوعية، هو عملية أساسية لدى الكائنات الإنسانية، أما التفكير بوصفه عملاً خفياً خاصاً لا سبيل له إلى تلك الموارد، فهو قدرة ثانوية مشتقة، وإن كانت من دون نفع.

وتعبير العقل يشير إلى مجموعة معينة من الميول لدى الكائن الإنساني، والمشكلة فيما يتعلق بتطور العقل هي ليست مسألة زائفة تولدها فلسفة ميتافيزيقية ماورائية خاطئة التأويل، ولا هي مسألة اكتشاف النقطة في التاريخ التي أضيفت فيها مميزة شخصية غير مرئية إلى المادة العضوية، بل هي مسألة اقتفاء خط تطور أنواع معينة من القدرات والطاقات والميول والحوافز عند الكائن الإنساني، وهي تفصل العوامل أو أنواع العوامل التي يعتمد عليها وجود مميزات كهذه.

وتشير الأبحاث الحديثة في علم الأنثروبولوجيا إلى خطأ النظرة السائدة القائلة بأن الميول العقلية لدى الإنسان سابقة جينياً للثقافة، وأن قدراته الفعلية تمثل توسع هذه الميول السابقة الوجود أو تحددها بوسائل ثقافية، وإن الحقيقة الظاهرة القائلة بأن المراحل الأخيرة للتطور البيولوجي عند الإنسان حصلت بعد المراحل الأولى للنمو في الثقافة، تعني ضمناً أن الطبيعة الإنسانية الأساسية أو الصافية أو غير المشروطة، بمعنى التركيب الجبلّي للإنسان غير كاملة وظيفياً لدرجة أنها غير قابلة للعمل.

وتطبيق هذه النظرية المنقحة للتطور الإنساني تقود إلى الفرضية القائلة بإن الموارد الثقافية هي عناصر مكونة، وليست مجرد زوائد ملحقة بالفكر الإنساني.

----

الكتاب: تأويل الثقافات

الكاتب: كليفورد غيرتز

ترجمة: د. محمد بدوي

الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية