يطرح الكاتب الدكتور صلاح قنصوه موضوعاً ذا أهمية كبيرة في إشكالية الموضوعية في العلوم الإنسانية، والإجابة على إمكانية تأسيس علوم الإنسان على أرض الموضوعية الصلبة بحيث تختفي من مبحثها الأهواء والتحيزات والأحكام المسبقة، خاصة وان العلوم التي تدرسه العلوم الإنسانية هو الإنسان.

يعالج كتاب "الموضوعية في العلوم الإنسانية – عرض نقدي لمناهج البحث" مختلف المواقف من مشكلة الموضوعية في العلوم الإنسانية، والتي فرغنا من وضعها على النحو الذي يؤذن بحلها، أو على الأقل، يحدد تخوم الأرض المشتركة التي يمكن أن تناقش عليها الخلافات في الرأي، ويتفق على حسمها.

ما حصاد ذلك جميعاً؟ أو أين سيكون موضع العلوم الإنسانية من ثقافة العصر؟ وما مهامها التي يجب أن تحمل تبعتها، وكيف يكون دورها الذي يجب أن تؤديه؟

بلا شك أن العلوم الطبيعية تختلف، لأن موضوعها العام هو الإنسان، في المجتمع، إزاء العالم، فهي بذلك لا تستطيع أن تعتصم بعزلتها بحجة التخصص العلمي الدقيق، ولا بد أن تجد نفسها منخرطة في صميم الواقع الإنساني الاجتماعي، غير أن هذا الانخراط، على وضعها الذي نريدها أن تتجاوزه، كان انخراطاً لا يوجهه الالتزام العلمي بقدر ما كان يسيره نفوذ عناصر أخرى خارج العلم، وبذلك جاءت أنساقها مفتوحة الطرفين، تدلف من قمتها الفلسفات والأيديولوجيات والتقويمات من دون رقابة، وتتشرب من قاعدتها التعميمات التجريبية من دون أن تؤسس رصيداً متفقاً عليه من الفروض المحققة، ورغم أن من مهامها أن تدرس كل نشاط إنساني في كل مجال يزاوله الفرد أو الجماعة في الفكر والعمل، إلا أنها طالت قائمة الملفات والأيديولوجيات والقيم.

لذلك نوه الكاتب الدكتور صلاح قنصوه إلى توجب إعادة النظر في صلتها بكل ذلك، لا لقطع الصلة، نحو وهم التخصص، بل لإعادة توزيع الأدوار، وإذا أجيز استخدام الإصطلاح العسكري فيمكن إيجاز المسألة على الفصل التكتيكي، أي القصير المدى، بين العلوم الإنسانية من جهة، والفلسفة والأيديولوجيا من جهة أخرى.

كما ويؤكد الكاتب على الفصل والعزل وإعادة خطوط الاتصال، وذلك وفق رؤية الفلسفة، فعلى امتداد ما يتحقق من فروض علمية تنفرط عن افتراضاتها الواسعة، ويمكن أن تثبت الأنساق الفلسفية جدارتها أو ضحالتها، بخطوات وئيدة ثابتة مرتهنة للزمن لكشف جدواها أو فسادها. وقد تلتئم أنساق جديدة وتأتلف آراء مبتكرة كإطارات أو نظرات شاملة ليس في وسعنا اليوم أن تتخيل ثراءها وخصوبتها، ومن جهة أخرى تبقى للفلسفة دورها المهم الذي تؤديه للعلوم الإنسانية كإطارات مرجعية يستمد منها الباحث مخططاته التصورية، وبذلك تدخل شريكاً خفياً في صوغ مشكلات البحث، ليس بمعنى الصياغة الإجرائية العلمية، بل بمعنى الصياغة النقدية، التي تجلو آفاقها وتعين حدودها وإمكانيات بحثها.

ويصر الكاتب أن الأيديولوجيات والتقويمات هي الحافز الرئيس في اختيار مشكلات البحث وانتقاء وقائعه وإيثار مفهوماته، وبعث آمال الباحث ومثله العليا على تكوين فروضه ويناء نماذجه التي يلبث أن يحتكم في صحتها إلى التثبت العلمي، واكتساب تلك الأيديولوجيات تأييداً، وبذلك ينمو الأمل في أن يخفت صوت الإرهاب أو الإغراء لتعلو كلمة العلم والبحث.

ومتى رأت العلوم الإنسانية في العلوم الطبيعية وتكنولوجيتها قوة رئيسية من قوى التحول الاجتماعي، فإن هذه القوة لن تبقى طويلاً أداة عاجزة في قبضة قوى ومصالح تدفعها بمنأى عن التقدم الاجتماعي والروحي، فعلوم الإنسان والمجتمع تعاونا على أن نرى العلم في سياق أوضاع الحاضر ومشكلاته، وفي ضوء المستقبل الممكن تحققه، فهي تكشف دلالة أو أهمية الحركات والمطالب الاجتماعية واتجاهها؛ فلقد نشأت مأساة الإنسان في أغلب الأحيان من نجاحه، في تحقيق ما توهم أنها أهدافه وغاياته، والعلوم الإنسانية هي التي في وسعها أن تميز نصيب الوهم أو الحقيقة في تلك العناصر المؤلفة للمطالب والحاجات الفردية أو الاجتماعية، وتهيئ لنا بذلك التحرر والقوة متى أظهرت زيف أهداف معينة أو استحالتها، ومتى عينت لنا المنهج الملائم الذي تحقق به غيرها، لعله تحقق لن يكون بين عشية وضحاها، ويكفي أن نشرع في السير، ليس من نقطة بداية، بل من نقطة اتفاق هو بعينه شرط الموضوعية وعلامتها في آن واحد. فالموضوعية مهما تعددت تعريفاتها لن تعدو أن تكون في نهاية الأمر سعياً لمشاركة الغير، وتهيئة الظروف.

----

الكتاب: الموضوعية في العلوم الإنسانية – عرض نقدي لمناهج البحث

الكتاب: د. صلاح قنصوه

الناشر: دار التنوير،، بيروت، 2007