يبين الفيلسوف والمؤرخ الإيطالي بينيدتو كروتشيه أن الفترة الممتدة من عهد اليونان إلى القرن /17/ كانت خاليةً من فلسفة الفن بالمعنى الأصلي للكلمة، إلا أن مفهوم الفن كان شائعاً في الأحكام ومتناثراً في تعريفات وآراء، ولقد كان مفككاً وخالياً من أي ارتباط، ذلك على حد تعبير كل من أفلاطون وسقراط، بمعنى أنه كان بلا ارتباط مذهبي بالمفاهيم الفلسفية الأخرى. ولقد كانت الومضات الفلسفية الفنية التي تومض هنا وهناك في آثار الفلاسفة سرعان ما تنطفئ، ولا تخلّف تأثيراً حتى في أصحابها أنفسهم.

بدأت فلسفة الفن ما بين القرنين /16/ و/17 أي بابتداء النزعة الذاتية الحديثة، بابتداء الفلسفة التي تفهم على أنها علم الفكر، وبابتداء فهم الواقع على أنه محايث في الفكر، وإذا كانت فلسفة الفن والنزعة الذاتية هما من الارتباط بحيث تؤلفان شيئاً واحداً، وإذا كانت النزعة الذاتية أو فلسفة الفكر هي الفلسفة الواقعية الحقيقية الصافية، في مقابل كل من الفيزياء أو الميتافيزياء أو اللاهوت، فما يجب أن نخشى أن نستمد من ذلك هذه النتيجة وهي أن الفلسفة تنتسب حقاً إلى العصور الحديثة.[1]

ولم تستقل فلسفة الجمال وتصبح فرعاً من فروع الفلسفة إلا في النصف الأخير من القرن /18/، وقد وضح ذلك الفيلسوف الألماني باومجارتن عندما عرّف هذا الفن باسم "الاستطيقا"، وحدد موضوعه في تلك الدراسات التي تدور حول منطق الشعور والخيال الفني، وهو منطق يختلف كل الاختلاف عن منطق العلم والتفكير العقلي. ومنذ ذلك التاريخ تقريباً، صار لعلم الجمال مجاله المستقل عن مجال المعرفة النظرية وعن مجال السلوك الأخلاقي، وسار في تأكيد هذا الاتجاه أيضاً الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، الذي انتهى إلى القول إن الخبرة الجمالية لا ترجع إلى النشاط النظري الذي يقوم به الذهن، والذي يحدد شروط المعرفة في علوم الرياضة والفيزياء، كما لا ترجع إلى النشاط العملي الذي يحدد السلوك الأخلاقي المعتمد على الإرادة، لكنه يرجع إلى الشعور باللذة الذي يستند على اللعب الحر بين الخيال والذهن.[2]

أما فريدريك هيغل فيرى أنه في حال سألنا أنفسنا عن نوع التناول العلمي للفن، فإننا سنواجه طريقتين متعارضتين لتناول الموضوع، كل واحدة منهما تستبعد الأخرى، ومن ثم فإننا لن نصل إلى نتيجة حقيقية.

والعمل الفني من وجهة نظر هيغل يطرح نفسه للاستيعاب الحسي، أي أنه مطروح للشعور الحسي الخارجي أو الباطني للحدس الحسي والأفكار، تماماً مثل الطبيعة سواء كانت طبيعة خارجية تحيط بنا، أو طبيعتنا الحساسة الخاصة داخلنا، وبعد كل شيء فإن الحديث يمكن مثلاً أن يتوجه إلى الأفكار والمشاعر الحسية، ومع هذا فإن العمل الفني باعتباره موضوعاً حسياً ليس فقط مجرد استيعاب حسي، إن قوامه هو من نوع خاص، فهو على الرغم من أنه حسي فإنه من الناحية الجوهرية في الوقت نفسه مطروح للاستيعاب الروحي، والروح مقصود بها أن يتأثر به ويجد بعض الإشباع فيها، والعنصر الحسي في أي عمل فني يجب أن يكون هناك وحسب، طالما أنه يوجد من أجل الروح الإنساني، بصرف النظر عن وجوده المستقل كموضوع حسي.[3]

تصنيف الفنون

عني الفلاسفة والنقاد في فلسفاتهم الجمالية بالبحث في جماليات الفنون الجميلة، محاولين الوصول إلى حدود كل منها في التعبير وفي التأثير، وقدموا مذاهب صنفوا فيها هذه الفنون ورتبوها ترتيباً هرمياً، جعلوا على رأسه أحد الفنون، وأحياناً ترتيباً أفقياً ساعدهم على اكتشاف التداخل بين بعضها البعض، أو استخراج أوجه الاختلاف والتمايز، وقد يكون أرسطو أقدم من حاول تصنيف الفنون بالاعتماد على وسائط التعبير المختلفة.

وفي العصر الحديث ساد التصنيف التقليدي الذي يقسم الفنون إلى مجموعتين رئيسيتين، مجموعة الفنون التشكيلية المعتمدة أساساً على المكان، ومجموعة الفنون الإيقاعية المعتمدة أساساً على الزمان، وأخيراً توّجت هذه الفنون بالفن السابع فن السينما وما تفرّع عنه من إذاعة وتلفزيون.

ومن أشهر تصنيفات الفلاسفة للفنون الجميلة في القرن /19/ تصنيف فريدريك هيغل، حيث أن فلسفته في الجمال ليست في الواقع إلا فلسفة للفنون الجميلة، وقد قسم التعبير الفني إلى أنماط ثلاثة بحسب ترقي العقل في وعيه بذاته وهي النمط الرمزي والنمط الكلاسيكي والنمط الرومانطيقي.

أما إتين سوريو فقد قدم مذهبه في تصنيف العلوم وأودعه كثيراً من الملاحظات والآراء التي لا يزال لها في علم الجمال المعاصر صدى كبير، وقد قدم فنين أحدهما ينتمي إلى فئة الفنون المحاكية أو التمثيلية، والآخر ينتمي إلى مجموعة الفنون التجريدية أو الموسيقية.[4]

الواقعية والتجريدية

عندما يصور الفنان أو الأديب موضوعاً معيناً فإنه يتخذ طريقاً من طريقين، إما أن يصور الأشياء على نحو ما تقع عليه عينه، أو يصورها على نحو ما يتصور عقله وخياله.

وفي الحالة الأولى يميل الإنسان إلى المذهب الواقعي، وفي الثانية يميل إلى المذهب التجريدي، ويظهر لنا تاريخ الفن أن كلاً من هذين الاتجاهين وجد على مدى الحضارات المختلفة، فقد رأى مؤرخو الفن وعلماء الحضارة أن النزعة الطبيعية في الفن كانت أقدم عند الإنسان في العصر الحجري القديم، لكن الانتقال إلى الحياة من مرحلة الترحال والصيد إلى مرحلة الاستقرار والحياة الزراعية في العصر الحجري الحديث أدى إلى تغلب النزعة التجريدية.

وفي الحضارة اليونانية ظهر الاختلاف بين النزعتين بين فناني المظهر والجوهر، وعند ازدهار الحضارة العربية في ظل الإسلام عكست الفنون الإسلامية صدى الجغرافيا والنظام الاجتماعي والعقيدة الفكرية، غير أن النزعة التجريدية هي التي كانت غالبة، وهذا ما سمي بالتجريد الإسلامي.

وفي العصر الحديث ظهرت الواقعية مع نهاية القرن /19/ وبداية القرن /20/، وكانت صدى لنمو الرأسمالية البرجوازية في أوروبا، ولم تقتصر على تصوير الواقع ومحاكاته، بل عمدت إلى معارضة المثالية الجمالية في الرومانسية التي كانت تسعى إلى التعبير عن مثال الجمال المطلق.[5]

----

المراجع:

[1] فلسفة الفن، ب. كروتشيه، المركز الثقافي العربي، بيروت، ص 123- 127.

[2] مقدمة في علم الجمال وفلسفة الفن، د. أميرة حلمي مطر، دار المعارف، ص 7.

[3] علم الجمال وفلسفة الفن، فريدريك هيغل، مكتبة دار الحكمة، ص 43- 74.

[4] مقدمة في علم الجمال وفلسفة الفن، مرجع سابق، ص 87- 89- 90- 97.

[5] المرجع السابق، ص 129- 130- 132- 133.