هل من الضروري أن نكون دوماً على صواب؟ وهل من الصواب أن نلجأ إلى التحايل والتدليس والتمويه في نزاعاتنا مع الآخرين, عوضاً عن توخي الصدق والحجة البيّنة والبرهان القاطع؟ وأين الفضيلة في أن نكون دوماً على صواب؟ وهل بغية العاقل سوى أن يتحرى مكمن الحق فيتبعه وإن جرى على لسان خصمه؟

ولما كان الهدف في كل عملية حجاجية هو الإقناع والاقتناع, وجب الالتزام بمجموعة من الضوابط النظرية والعملية حتى لا ينفلت الخطاب ويخرج به المخاطب عن سياق القول, وعن قصد المتكلم. وضمن هذا السياق يضع بين أيدينا الفيلسوف المتطاير الألماني آرثور شوبنهاور في كتابه (فن أن تكون على صواب) ثماني وثلاثين حيلة تعين الأطراف المتحاجة على النيل من بعضها. وهي تهدف في الدرجة الأولى تغليط الآخر واستغلاق الفكرة عليه واستعجام عبارته وتشتيت ذهنه حتى يجد نفسه في آخر المطاف وقد حشر في خانة المهزوم بالإقناع والإفحام.

في كتابه الإشكالي هذا, يقف شوبنهاور على نماذج من الحيل التي يتم الاستناد عليها عندما تتنازع الأطراف المتحاجة مع بعضها. فقد يسعى كل طرف أو أحدهما إلى النيل من خصمه باعتماد مختلف الوسائل المتعلقة بالأقوال والأحوال. وتتفرع سبل التغليط إلى تلك التي تبنى على اللغة باستخدام حيل لغوية من قبيل إخفاء القصد واستغلاق العبارة واستعمال مقدمات كاذبة وطي بعضها، أي التمتع بقدر واسع من الدهاء. لا سيما حين تكون المطارحة بين أشخاص متفاوتي المعرفة والذكاء, وبالتالي سيكون هناك حتماً اختلاف في النتائج, واختلاف في الأساليب أيضاً، مؤيداً في ذلك الفيلسوف اليوناني أرسطو في مقولته "لا تتجادل مع أي شخص كان, لكن فقط مع أناس تعرفهم وتعلم أنهم عقلاء كفاية".

إن اتباع تقنية الجدل المرائي أو فن المغالطات بتعبير أكثر دقة، سيجعل من أي شخص يمرر أفكاره بسرعة فائقة وبقوة لا مثيل لها، خاصة إذا كان يحتل موقعاً هاماً ومرموقاً، ليس ذلك دليلاً على كونه محقاً بالطبع، لكنه سيضعه على الأقل في موقع متفوق يمكنه من الحشد والتعبئة لأفكاره ومنهاجه باعتبار أنه على صواب في نظر هؤلاء وفي نظر نفسه طبعاً، حتى ولو استعمل في ذلك حيلاً عديدة. صحيح أن هذه النصائح بمثابة دليل لتعلم تقنية الحوار، وتفادي مغالطات الخصم، لكنها تتيح من جانب آخر لصاحبها مغالطة ليس الخصم فقط، ولكن الكثير من الناس.

ربما تفتقر الحيل إلى أي أساس من المنطق, مما لا يستقيم مع مبادئ الحوار السليم وبروتوكول النقاش الهادف، مثل الحيلة رقم 18 والتي تنص: مقاطعة الخصم وتغيير المجادلة فيما لو اقترب من تسجيل نقطة ضدنا.

وفي الحيلة رقم 24 ينصحنا شوبنهاور على استخراج نتائج كاذبة من طرف الخصم وتشويه المفاهيم التي يطرحها.

بينما تنص الحيلة رقم 27 على البحث عما يُغضب الخصم, فإذا وجدنا ما يغضبه وجب علينا الدفع بهذه الممارسة والتركيز عليها لزيادة إغضابه فيظهر بمظهر الضعيف أمام الجمهور. هنا الافتقار لكل قيم وأخلاقيات التحاور والأساسيات الإنسانية. وفي الحيلة 28 يدعونا إلى إقناع الجمهور وليس الخصم, خاصة إذا كان الخصم من فئة العالمين ونحن لا نملك أمامهم حججاً قوية!!

وأخبث الحيل لدى شوبنهاور هي الحيلة 31 ويطالبنا فيها بالقول: أنا لا أفهم شيئاً مما تقوله، وذلك لتشويه عبارة الخصم وإرغامه على تلف نفسه بالشرح والتكرار. بينما الحيلة 38 فهي تطالب بإهانة الخصم باعتبار أفكاره خليطاً غير متجانساً وغير مفهومة بهدف تضليل السامعين وتبديد أفكار الخصم وتقويض إمكانياته.

ولد آرثور شوبنهاور في ألمانيا ( 1788- 1860) وهو معروف بفلسفته التشاؤمية، فما يراه في الحياة ما هو إلا شر مطلق، فقد بجل العدم وقد عرف بكتاب "العالم إرادة وتفكر"، أو "العالم إرادة وتمثل" في بعض الترجمات الأخرى، والذي سطر فيه فلسفته المثالية التي يربط فيها العلاقة بين الإرادة والعقل، فيرى أن العقل أداة بيد الإرادة وتابع لها.

وقد كان تلميذاً لكانط. مات أبوه منتحراً وهو في السابعة عشرة. عاش بعد ذلك حياة شقية تعيسة بسبب خلافه مع أمه نتيجة حياة التحرر من كل قيود الفضيلة التي عاشتها أمه بعد أبيه، وقد انتهى الخلاف بينهما إلى قطيعة كاملة حتى ماتت ولم يرها، وقد سبب سلوك أمه شعوراً عنده بالمقت الشديد للنساء لازمه طوال حياته، فلم يرتبط بامرأة حتى مات. قام بالتدريس بجامعة برلين (1820 – 1831م) ولم يكن موفقاً ولا مقبولاً من الطلاب، وقد عزا ذلك هو إلى غيرة الأساتذة الآخرين منه، وتآمرهم ضده، ولم تكن كتبه تلقى رواجاً ما سبب له إحساساً مضاعفاً بالشقاء والتعاسة، لكن في آخر حياته، بدأت كتبه تروج والإقبال عليها يتزايد، فشعر بالسعادة والرضا. إن مزاج شوبنهاور، دفع به إلى اختيار نوعية معينة من الكتب، وكان اختياره منصباً على دراسة بوذا, ثم كتب في الديانة الهندية، وتعمق لديه الإحساس بأن الحياة شر، وأن الحياة ليس فيها إلا الألم والمرض والشيخوخة والموت. والديانة الهندية تقوم على أن الحياة قائمة على أنواع من الشرور الطبيعية والخلقية.

ويرى أن الحياة كلها, بل الوجود كله شرور وأحزان ومشقات وآلام, وليس في الوجود كله خير قط, ولا يعرف معنى السعادة, وأقصى ما يتصور من خير في الوجود، أن تقل شروره نوعاً أو تخف آلامه هوناً.

أقول: إن العاقل الرزين يتعفف أن ينتصر لرأيه إن عرف أنه باطل، بل يتحرى الحق ويقف عنده، ويلتزم به حدود اللياقة والاحترام، ويرفض أن يتعصب كل طرف لحجته، وعليه فإنه من الأجدر بنا أن نبحث عن كتب تعلمنا النزاهة الفكرية لا التعصب الأعمى.

----

الكتاب: فن أن تكون على صواب

الكاتب: آرتور شوبنهاور

الناشر: منشورات ضفاف، 2004