يعدّ كوميداس أحد عباقرة الموسيقا في بداية القرن العشرين، حيث حطم القوقعة الفردية التي سادت العالم والفنان بشكل خاص حينها، بقوة جبارة وبجرأة وأمانة، وذلك بتكريس كل كيانه للفن والخلق الشعبي.

اسمه الحقيقي صوغومون، وفي عام 1893 عند رسامته أطلق عليه الكاثوليكوس خريميان اسم الكاهن كوميداس تيمناً بالكاثوليكوس كوميداس الذي كان شاعراً وموسيقياً في القرن السابع الميلادي.

ولد كوميداس في بلدة كوتينا غرب الأناضول عام 1869، وكتب كوميداس عن أهله ما يلي "كان أجدادي مشهورين بجمال أصواتهم... فبعض الأنغام التي رددتها أمي وأبي أخذاها من شفاه بعض مسني بلدتي". فقد والديه وهو فتي فاعتنت به جدته أم والده، ولجمال صوته تبنته الكنيسة حيث درس لغته الأم الأرمنية وتعمق في إبداع أنغام الكنسية الأرمنية. في عام 1880 وأثناء زيارة الكاهن كيفورك تيرتساكيان إلى إيتشميادزين- مقر الكنيسة الأرمنية في أرمينيا لترفيعه ورسمه مطراناً، وكان كاثوليكوس كيفورك الرابع قد أوعز إليه أن يجلب معه تلميذاً من الأيتام لينضم إلى معهد كيفوركيان التابع للمقر المذكور، فاختار كوميداس من بين عشرين يتيماً، حيث دخل المدرسة الداخلية ودرس فيها لمدة إحدى عشرة سنة، وتخرج منها عام 1893، ورسم شماساً ومن ثم كاهناً.

بعد ثلاث سنوات انتقل إلى برلين بمساعدة أحد المتبرعين، ودرس هناك الموسيقا في معهد شميدث، والفلسفة في جامعة فريدريك- فيلهلم، حيث حصل على شهادة الدكتوراه في الموسيقا والفلسفة وأطروحته كانت عن الموسيقا الكردية. وهناك من يقول بأن اطروحته هذه كانت رسالة تخرج من معهد كيفوركيان. وفي كلا الحالتين سجل أول دراسة علمية مكرسة للموسيقا الكردية في الأدب الموسيقي العالمي. وفي سنة تخرجه كموسيقار وعالم سنة 1899 أصبح كوميداس أول عضو غير أوروبي في الرابطة الدولية للموسيقا ومن الذين ساهموا في تأسيسها، وقدم من خلالها العديد من المحاضرات وأمسيات موسيقية حول الموسيقا الأرمنية في ألمانيا وغيرها من الدول الأوروبية. وفي أيلول 1899 عاد إلى إيتشميادزين ليصبح مدرساً فيه.

الموسيقا الأرمنية

ظلّ حريصاً على الاحتكاك بالعالم الأوروبي والغربي، ونجح في التعريف بالموسيقا الأرمنية أمام كبار الموسيقيين، واستطاع أن يشكل جوقة مؤلفة من مغنيين أرمن وفرنسيين، وقدمهم بحفلة في باريس برنامجها الأغنية الأرمنية الشعبية أمام نخبة من الجمهور الفرنسي وذلك عام 1906، وفي نهاية الحفل تقدم نحوه المؤلف الموسيقي الكبير كلود ديبوسي قائلاً "أيها الأب كوميداس، أنا أنحني أمام براعة الموسيقا الأرمنية"، وتوجه إلى الجمهور بقوله "كان يكفي لكوميداس أن يكتب أغنية (الشريد فقط)، لكي يكون من الموسيقيين العظماء في العالم".

موسيقا الشعوب

أعطى كوميداس مساحة واسعة من مسيرته لموسيقا الشعوب التي جاورت الأرمن، منها الموسيقا الكردية، فبالإضافة إلى بحثه العلمي في هذه الموسيقا التي حظيت اهتمام الأوساط الفنية لاحتوائه تفاصيل جديدة، أيضاً هو أول من نشر نماذج من الموسيقا الكردية، وفي هذا الخصوص يرى الموسيقي "شاهفيرديان" بأن دفتر التدوين الصغير الذي نشر في يوركنسون عام 1904 هو أول ما نشر عن الفلكلور الموسيقي الكردي حيث جاء تحت عنوان "ألحان كردية دوّنها الأب كوميداس" وتحوي المجموعة على ثلاثة عشر لحناً كردياً بنصها الأصلي. كما تعرّف كوميداس على الموسيقا الروسية منذ سنوات الدارسة في معهد كيفوركيان حيث قرأ سجلات موسيقية باللغة الروسية وبحث في أعمال المؤلفين والموسيقيين الروس في عام 1895 عند دراسته مع الموسيقار يكماليان في تبليسي معتمداً الكتب الموسيقية الروسية لاسيما الكتاب المعروف لمؤلفه ريمسكي كورساكوف صاحب الأوركسترا الشهيرة (شهرزاد). وخلال دراسته في برلين وجد الوقت ليهتم بالأدب والموسيقا الروسية، وقد جذبته خصائص ومدى تفكير المؤلفين الكلاسيكيين في هذه الموسيقا، وفي تلك الفترة أدرج قصيدة "أعالي الجبال" للكاتب ليرمونتوف في أعماله.

موسيقا الشرق

أكد كوميداس بطرق علمية موسيقية أمام الموسيقيين العالميين على أن لدى شعوب الشرق الأوسط موسيقا غنية وأصيلة مستمدة من تقاليدهم على مر القرون، وكتب في مقال له سنة 1913 "أن لغة وآداب أي شعب يمكن أن تتغير وتزدهر تبعاً لشكل ودرجة تأثيره من لغة وآداب، ولكن إذا امتلك شعب ما لغة وآداباً خاصة به واحتلت مكاناً مرموقاً بين الشعوب، فلا بد أن تكون له موسيقا أصيلة وخاصة به، لأن موسيقا أي شعب تنبع من هجائية لغته". كان الرأي السائد هو أن الموسيقا الشعبية تخاطب العاطفة لا العقل، وحدد كوميداس وقتها نوعين من الموسيقا الأول هي في الألحان التي يمكن انتزاعها من الكلمات الشعرية، وإعطائها لحناً مختلفاً أو العكس، والثانية تولد فيها الموسيقا والشعر معاً وهذا هو الخلق الشعبي. ولا يمكن الفصل بين الكلمة والنغم أو فهم الواحد دون الآخر، بمعنى آخر يصر كوميداس على أن الإبداع أو الخلق الشعبي يخاطب العاطفة والعقل معاً.

الأغاني الشعبية الأصيلة

في أغلب أمسياته غنى كوميداس وعزف إلى جانب الأرمنية، الكردية والتركية والعربية والفارسية، ولم يأت اهتمامه بموسيقا الجوار صدفة ولكن بهدف إظهار التوافق والاختلاف بين الموسيقا الأرمنية وباقي الموسيقات. ولكي يتمكن من تنقية وتصفية الألحان الشعبية والكنسية لبني جلدته من العناصر الغريبة وتأثيراتها، ذهب كوميداس إلى الشعب وبدأ يسجل أغانيه وموسيقاه وشعره في كل مكان وزمان في أرمينيا والأناضول لاسيما في القرى وفي كل المناسبات، في الحقول وطقوس العبادة ورقصات المساء والنهار وفي أفراح وأحزان الفلاحين وأعراسهم ومآتمهم، ولم يحصر اهتمامه بأرمينيا وحدها، ليكون رائداً في اكتشاف التقاليد الموسيقا الشرقية، وتقاربها وتأثيراتها ببعض، وبهذا استطاع أن يعرف خواص اللغة الموسيقية الأصيلة لكل شعب من الشعوب "أرمن، عرب، كورد، إيرانيين، أتراك، يونان" إضافة على امتلاك معرفة واسعة بالموسيقا الأوروبية.

ألف أغنية وأغنية

من أبرز ما قام به كوميداس هو تسجيل الأغاني، فقد جمع أكثر ثلاثة آلاف أغنية أرمنية، وصاغها وقدمها بشكلها النهائي والتي جاءت متناغمة من خلال الغناء المنفرد والغناء الجماعي وتعدد الأصوات، وقام بتنقية الموسيقا الأرمنية ليحعلها ذات طابع خاص ومميز. غير ذلك كتب كوميداس عدداً كبيراً من الدراسات حول الموسيقا الأرمنية وتاريخها في صحيفة (آراراد)، كما ألف الكثير من الأبحاث والكتب منها (أغان شعبية من "أكن" بالنوتات الأرمنية، ألف أغنية وأغنية – الجزء الأول والثاني، مجموعة أغان ريفية- أناشيد أرمنية، أغان متفرقة، أغان أرمنية شعبية، أغان روحية أرمنية، دراسة حول الموسيقا الأرمنية الشعبية، دراسة حول الموسيقا الأرمنية الكنسية).

محنة

في عام 1915 بدأت الحكومة التركية بحملة اعتقالات ضد مفكري وكتاب الأرمن وتالياً محاولة إبادة هذا الشعب من الوجود. وبعد اعتقال الكاتب البارز تيودوس لابجينجيان صاحب (الكتاب السنوي للجميع) بعدة أيام تم اعتقال كوميداس أيضاً في 11 نيسان من منزله واقتادوه إلى السجن المركزي في القسطنطينية. وفي باحة السجن تجمع حوله العشرات المعتقلين متوسلين إليه لمواساتهم والتخفيف من عذابهم، ويومها تعرض كوميداس مع الجمع للضرب القاسي إلى حد الموت، وخلال ساعات قليلة تجمع حوالي مئتي معتقل جميعهم من مفكري الأرمن، وتم نقلهم في سيارات مغلقة حيث تم نفي بعضهم إلى (عياش) وبعضهم إلى (إينغوري) ووضعوهم في أقبية رطبة.

الأيام الأخيرة

مرض كوميداس نتيجة هذه الأيام العصيبة، رغم ذلك لم يوقف نشاطه، فشكل جوقة غنائية ولكنها تقلصت شيئاً فشيئاً نتيجة الاعتقالات والإعدامات التي مارسها الأتراك على أعضاء الفرقة والشعب الأرمني بشكل عام، ولم يتركوا أحداً من شرهم، وهذا القتل لم يترك كوميداس يهدأ، حيث الجثث والأجساد المشوهة أمام عينيه في كل مكان.

بفضل توسط بعض السفارات استطاع أصدقاؤه الناجون من المنفى الحصول على أمر بإخلاء سبيل كوميداس ونقله إلى القسطنطينية، ولكن بدأ المرض يفتك جسده، ليضطر صديقه الدكتور "طوركوميان" نقله إلى مصح "شيشلي" البعيد عن المدينة. ولسوء حالته تم نقله إلى باريس عام 1919 ليتعافى قليلاً، حيث مكث لمدة ستة عشر عاماً، وتوفي في 22 تشرين الأول 1935، ووضعت جثته في تابوت زجاجي بعد تحنيطها، وتوارى في قبو الكنيسة الأرمنية. وبعد عام تم نقل رفاته إلى (يريفان) ليرقد في مدفن العظماء في وطنه أرمينيا.

----

المراجع

[1] الحوار الموسيقي الأرمني عند كوميداس، خاتشيك بيليكيان، مطبعة تكنوبرس، بيروت، 1985.

[2] كوميداس والموسيقا الأرمنية، د. نورا أرسيان، دمشق 2016.