يذكر الباحث والمفكر المغربي سعيد ناشيد في كتابه "التداوي بالفلسفة" أن ثمة فرضية وضعها هيغل ولم نتمكن من دحضها إلى اليوم، حيث رأى أن تاريخ الفلسفة هو التاريخ نفسه، ويرى أن هذا واضح إذا ما اعتبرنا تاريخ الفلسفة هو تاريخ العقل، لكنه يصبح أكثر وضوحاً حين نعتبر تاريخ الفلسفة هو تاريخ المفاهيم الكبرى التي بواسطتها يستطيع عقل الإنسان أن يفكر في العالم والحياة، والحضارة والسياسة، وفي الصيرورة والطبيعة، والموت والفناء.

تاريخ الفلسفة هو تاريخ التصورات الكبرى التي يقارب بها عقل الإنسان مسائل الوجود والزمان والكينونة والمعنى، وبهذا المعنى تكون الفلسفة تعبيراً عن شيء آخر أكثر دقة، وهو العقل الإنساني نفسه. والفلسفة هي السلم الذي ارتقته الحضارة المعاصرة صعوداً متدرجاً نحو تحسين قدرة الإنسان المعاصر على التفكير في مواجهة الأوهام، وتحسين قدرته على العيش في مواجهة الشقاء، وتحسين قدرته على التعايش في مواجهة عنف الإنسان ضد أخيه الإنسان، وهذا الأفق لا بديل عنه سوى الهمجية والانحطاط.

التصوف الفلسفي

لقد وضع اسبينوزا الأهواء المبهجة مقابل الأهواء الحزينة، كما وضع نيتشه غرائز الارتقاء مقابل غرائز الانحطاط، وكذلك يضع فرويد قوى الحب مقابل قوى الموت. غير أن اسبينوزا نفسه والذي وصفه جيل دولوز بأنه الفيلسوف الأكثر نبلاً، يُعد أيضاً الفيلسوف الأكثر استيعاباً لروح التصوف الفلسفي، وإن معضلة الخطاب الديني في معظم الديانات تكمن في أنه خطاب ينمي ما يسميه اسبينوزا الأهواء الحزينة، وينمي ما يسميه نيتشه غرائز الانحطاط، وينمي ما يسميه فرويد قوى الموت. وعلى رأس هذه الأهواء الحزينة تأتي مشاعر الخوف والرهبة التي يحرص – بحسب الباحث ناشيد – الخطاب الديني على تنميتها منذ المراحل الأولى للتنشئة الاجتماعية. وفي هذا الصدد تكمن قوة التصوف الفلسفي في أنه يمثل أهم محاولة لإحداث انقلاب غريزي داخل الخطاب الديني، بموجبه ينتقل الدين إلى جهة دعم الأهواء المبهجة وغرائز الارتقاء، على رأسها مشاعر الحب والاحترام.

فلسفة السعادة

إن المبدأ الذي تقوم عليه فلسفات فن العيش بسيط ومتفق عليه في تاريخ الفلسفة، والتفكير هو أداة تحرير الإنسان من الانفعالات السلبية والغرائز البدائية، والتي هي العامل الأساسي في تعاسته وشقائه.

ولم يرَ الفلاسفة منذ القدم أي علاقة بين العقل والشقاء، بل برهنوا بما يكفي أن الطريق إلى السعادة يقتضي بالضرورة إعمال العقل وممارسة التفكير، ومنهم اعتبر أن الاستدلال العقلي بحد ذاته لذة وسعادة (أبيقور مثلاً)، كذلك لم يتردد أرسطو في اعتبار الحياة الفلسفية هي الحياة الأكثر سعادة. والفلسفة بحسب الفارابي هي التي ننال بها السعادة، وعموماً فقد اتفق معظم الفلاسفة على أن تقليص دائرة الشقاء في حياة الإنسان رهن بتنمية مهارة التفكير، طالما أننا كما نفكر أن نكون.

البعد الخلاصي للفلسفة

لا تمتلك الفلسفة أوهاماً تبيعها للمعذبين، وربما هذه نقطة ضعفها طالما يحتاج الإنسان أحياناً إلى أوهام معزّية، لكن الفلسفة بقليل من الصبر والتبصر تقترح أسلوب عيش يجعل الحياة محتملة في كل الظروف، ومن دون أوهام بالضرورة، وهنا يكمن البعد الخلاصي للفلسفة.

وقد انطلق الباحث ناشيد من وعي الذات بالذات، محاولاً أن يستنبط من تاريخ الفلسفة عشرة مبادئ وهي: المبدأ الأول: السعادة ألا أبحث عن السعادة (وهو مبدأ مستوحى من أرسطو وأبيقور واسبينوزا وشوبنهاور وآلان)، المبدأ الثاني: لست كائناً إلا في الحاضر (مبدأ مستوحى من عمر الخيام وشوبنهاور وآلان ولوك فيري)، المبدأ الثالث: لا شيء مصمم لأجلي (مبدأ مستوحى من زينون وسينيكا وبوثيوس)، المبدأ الرابع: ليس التذمر سوى انحطاط غريزي (مبدأ مستوحى من سينيكا وشوبنهاور ونيتشه)، المبدأ الخامس: الشقاء هو ما أراه أنا شقاء (مبدأ مستوحى من سينيكا وبوثيوس وآلان وبرتراند راسل)، المبدأ السادس: لكي أنمو فإن الظروف السيئة هي ظروف مناسبة (مبدأ مستوحى من اسبينوزا ونيتشه)، المبدأ السابع: قد لا يتحقق هدفي من الحياة، لكنه نقطة توازني في الحياة (مبدأ مستوحى من شوبنهاور وبرتراند راسل وفريدريك لونوار وجاك أتالي)، المبدأ الثامن: لا أتحكم في طول الحياة لكني أتحكم في عرضها (مبدأ مستوحى من أبيقور وابن سينا)، المبدأ التاسع: انعدام اليقين هو ما يجعل الحياة محتملة (مبدأ مستوحى من كارل بوبر وهيزنبورغ)، المبدأ العاشر: قدرتي على التأمل هي خير عزاء لي (مبدأ مستوحى من معظم الفلاسفة).

وصايا فلسفية

وقد وضع الباحث ناشيد في كتابه عشر وصايا للفلسفة تتلخص بالآتي: الوصية الأولى: (اعرف نفسك بنفسك) أي أن تعرف لباسك ونظامك الغذائي وتكوين طموحاتك وميولك وقدراتك. الوصية الثانية: (اجعل ذاتك تحقق نموها) فحاجة النمو لا تقتصر على البعد الجسدي بل الثقافي والتعليمي أيضاً. الوصية الثالثة: (استعمل عقلك بنفسك) فالعقل إن لم يعمل يمت. الوصية الرابعة: (احكم نفسك بنفسك) أي تعلم كيف تتحكم بانفعالاتك وتصرفاتك. الوصية الخامسة: (لكي تفكر يجب أن تشك) فلا علامة تدل على التفكير سوى الشك بحسب ديكارت. الوصية السادسة: (تحرر من الخوف) لأنه هو منبع العبودية. الوصية السابعة: (ليس الغنى بما تملكه، لكن الغنى بما تستغني عنه). الوصية الثامنة: (وأنت تمارس قناعاتك لا تنس أن تسائلها) فمساءلة القناعة حقّ عليك. الوصية التاسعة: (ليس ضرورياً أن تكون مؤمناً أو ملحداً) وهذا حال معظم الفلاسفة لكنهم منفتحون على الخبرة الروحية بمعناها العام. الوصية العاشرة: (لا تخف من الموت) لأن هذا الخوف أصل الرذائل بحسب أفلاطون، وأصل الشقاء بحسب هيغل، وأصل أخلاق العبيد بحسب نيتشه.

----

الكتاب: التداوي بالفلسفة

الكاتب: سعيد ناشيد

الناشر: دار التنوير، بيروت، 2018