شهدت سورية منذ الألف الثانية قبل الميلاد حضارة مدنية مزدهرة، إلا أن كبريات مدن عصر البرونز "ماري وإيبلا وألالاخ وقطنة وأوغاريت" دُمرت في معظمها في الاضطرابات نحو /1200/ ق.م. واحتفظت "حلب وحماه" وحدهما بنشاط هام بعد استيطان الآراميين، تضاف إليهما "زنجرلي" في أقصى الشمال و"دمشق" في الجنوب. في الوقت نفسه ظهرت الممالك الفينيقية من "أرادوس" (أرواد) إلى "عكا" متراصفة من الشمال إلى الجنوب على الشاطئ.

يبيّن موريس سارتر في كتابه "سورية في العصور الكلاسيكية (الهلنستية- الرومانية)" أن المدن القديمة في معظمها لم تبقَ ناشطة فقط بعد /332/ ق.م، بل أُضيفت إليها منشآت جديدة سلوقية في غالبيتها، حيث اختيرت "سورية" الشمالية لتكون فيها عاصمتهم "أنطاكية".

كذلك منذ عام /300/ ق.م ظهرت مدن جديدة منها "سلوقية بيريا وأنطاكية وأفاميا ولاودقية" على البحر، و"دوراأروبوس" وغيرها، ساهمت في تربيع "سورية" الشمالية "قيرهوس وخلقيس جبل بيلوس وزوغما السلوقية"، وفي الوسط "لاريسا العاصي وسلوقية بيلوس وأرثوزا" وما بين النهرين "إديسا ونيسيبيس"، ويعطي المؤلفون القدماء عشرات الأسماء لا يزال يتعذر تحديد مواضع الكثير منها.

مدن سوريّة على الطريقة الإغريقية

يوضح سارتر تحول المدن – الممالك الفينيقية إلى مدن على الطريقة الإغريقية (دويلات مدن)، من خلال إلغاء الملوك خلال النصف الأول من القرن الثالث ق.م، وبقيت المؤسسات الأخرى على حالها. وقبل نهاية القرن الثالث ق.م، نظر إغريق العالم الإيجي إلى سكان "صور وصيدا وبيبلوس (جبيل) وبيروتيوس (بيروت)" على أنهم إغريق، إذ تم قبولهم للمشاركة في المباريات الكبرى في إطار الرابطة الإغريقية. وكان لجميع سكان "صور وبيروتيوس" أسماء إغريقية، بحيث لم يعودوا يميزون عن الإغريق الأصليين.

ومع التطور السريع، بدأت الثقافة الفينيقية تفقد أصالتها حتى انصهرت إلى حد كبير بالثقافة الإغريقية المسيطرة. وهكذا خرجت الفينيقية من الاستخدام الدارج المكتوب والمحكي منذ بداية العصر الإمبراطوري، ولم تستمر بعد ذلك إلا على شكل حروف معزولة على النقود أو أسماء العَلم، إلا أنها اختفت كلغة حية في الوقت نفسه لنجاح اللغة الإغريقية ونجاح الآرامية الآخذة بالتقدم.

ونجاح المدن السورية كما يرى سارتر تجلى في سعتها، حيث وصلت مساحتها إلى عشرات الهكتارات، وغالباً إلى مئات الهكتارات، حتى ولو لم تكن متحضرة بالكامل. وقد أظهرت هذه المدن فخامةً وذوقاً تضاهي فيهما مثيلاتها في العالم الإيجي.

وفيما يخص الحياة الثقافية، فقد شهدت المدن السورية بوتقة الثقافة الإغريقية ما يقارب ألف عام حياة ثقافة غنية. ويبدو الدور الرئيسي الذي أداه في الآداب الإغريقية كثير من الفلاسفة والكتاب من أصل فينيقي منذ العصر الهلنستي، ألمع دلالة على ازدهار الهلينية في هذه المنطقة.

نشاط حرفي

وبين البحر المتوسط وآسيا، بنت "سورية" ثروتها اعتماداً على موقعها كمفترق طرق، وعلى مواردها الخاصة. وقد صنعت شهرتها أولاً منذ العصور القديمة من خلال نشاط حرفي انتشر في كل المدن السورية، بالإضافة إلى مساهمة إنتاجات أخرى أيضاً في رخاء المنطقة الواسع. وقد ارتكز ثراء المدن أساساً إلى ثلاثة مصادر للثروة وهي (الريع العقاري والإنتاج الحرفي والتبادلات)، فالكثير من أهل المدن هم ملّاك عقاريون كبار منذ العصر الهلنستي.

ولقد ضمت "سورية"، على الرغم من مدنها الكثيرة، عدداً كبيراً من القرى التي غابت سيطرة المدن عن الكثير منها خصوصاً في الجنوب. وحالما هدأت حالة عدم الأمان التي خيمت عليها مع نهاية العصر الهلنستي، ساهمت القرى السورية على نطاق واسع في الازدهار العام، وازدانت بالعديد من الصروح العامة.

----

الكتاب: سورية في العصور الكلاسيكية (الهلنستية والرومانية)

الكاتب: موريس سارتر

الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق