ينحدر الحمدانيون من فرع عربي أصيل من العدنانية التي وُلدت العربية في كنفها، ومؤسس هذه الأسرة هو "حمدان بن الحارث بن لقمان"، وينتهي نسبه إلى "نزار بن معد بن عدنان". وقد نال الحمدانيون المجد والشهرة والنفوذ والمكانة الأدبية والعلمية، وتقلدوا الإمارة، وحاربوا الروم، وصاهروا الخلفاء.

مؤسس الدولة الحمدانية هو سيف الدين الحمداني، وقد جعل عاصمتها حلب، التي دخلت في عهده عهد أمجادها التي لم تشهد لها مثيلاً، حيث كانت من أعظم المراكز التي عرفها الإسلام، ووفد إليها كبار الشعراء والعلماء، وأصبح بلاط سيف الدولة ملتقى رجال العلم والفكر الذين وجدوا في الأمير الحمداني حامياً وسنداً لهم.

ولطالما كانت قلعة حلب مركزاً للدولة الحمدانية في نهاية القرن العاشر الميلادي، فأولوا للقلعة اهتماماً كبيراً، حيث بنوا السور والتحصينات فيها، وكان سيف الدولة الحمداني أول من اهتم بالقلعة في العصر الإسلامي، فأمر بعمارتها وتحصينها، وبنى سوراً لمدينة حلب، حيث كان في صراع عنيف من البيزنطيين آنذاك، واستمرت العناية بالقلعة حتى في العصور اللاحقة.

وبالإضافة إلى حلب، فقد عرفت الدولة الحمدانية بكثرة المدن والقرى التابعة لها، وقد اهتم الحمدانيون بمدنهم وقراهم خاصةً تلك الموجودة على الثغور، ومن أبرزها "عين زربة ومرعش وقنسرين وسنجار وحصن الحدث وأنطاكية والمصيصة ومنبج وحمص وحماه ورعبان وجبل سمعان والهارونية".

تقاليد وولع بالفن

ولما كانت الدولة الحمدانية جزءاً من المجتمع العباسي والحضارة العباسية الإسلامية العربية، فقد أصابها ما أصاب الخلافة العباسية في بنيتها وشرائحها وقومياتها، وإن غلب عليها العنصر العربي بخلاف العباسيين الذين تنافس الأتراك والفرس على إدارة خلافتهم.

ولطالما تميزت الدولة الحمدانية بعاداتها وتقاليدها سواء في حل المشكلات، كما كان يجري في قرية "عين جارا" الحلبية، أو علاج المرضى، كذلك في أعيادهم الخاصة ومنها "يوم العيد في الثغور، وإحياء عاشوراء، وخميس الرز، واحتفالات عودة الأسرى"، كما كانت الدولة الحمدانية مولعة بالغناء والموسيقا، فكان لسيف الدولة مغنيه الخاص ويدعى "الهنكري".

التجارة والصناعة

كان سيف الدولة يهتم بأمور الناس الاقتصادية، فعين من قبله أحد الأشخاص للإشراف على مشاكل الناس ومتابعة أوضاعهم، كما حاول الانفتاح على الأهالي من خلال تسهيل العمل في الأسواق، وتسهيل التجارة الداخلية والخارجية. وعلى الرغم من ذلك، فلم تسلم بعض المدن والقرى من سياسة سيف الدولة الاقتصادية بفرض الرسوم والضرائب على التجار ومنها مدن "بالس والرقة والرافعة ونصيبين".

ولقد كان لحلب في عهد الدولة الحمدانية أهمية تجارية كبرى، وكانت تجارتها الداخلية نشطة جداً خاصة مع دمشق. ولأن صادرات حلب كانت تصل إلى أنطاكية عن طريق الفرات لتصدرها بدورها عن طريق البحر، فقد غدت أنطاكية بفضل حلب من أكبر الموانئ لتصدير بضائع الشرق.

كما عُرف عن حلب تخصص الأسواق فيها، ما سمح للفرد أن يبحث عما يريد شراءه من دون عناء، وهذه الميزة سهلت للدولة الحمدانية مراقبة التجار مهما تنوعت الأسواق. أما فيما يخص الجانب الصناعي، فقد تنوعت الصناعات الحمدانية بسبب توفر المواد الأولية والأسواق الداخلية والخارجية، فعرفت صناعة النحاس والرصاص والحوّار والرخام السماقي في حلب، كما استخرج الحديد بكميات محدودة في حلب أيضاً. واشتهرت بصناعة السيوف التي صنعها الحلبيون من الفولاذ، واستخرجوا الفحم الحجري، وصنعوا كذلك الزجاج وحجر الرحى، واستخرجوا الملح، كما حظيت المنسوجات بإقبال كبير. إلى جانب ذلك، عرفت الدولة الحمدانية صناعة الورق والزيت وضرب النقود وغيرها من الصناعات.

الحياة العلمية

لقد كان عصر الحمدانيين عصر ثقافة بامتياز، حيث استفاد طلاب العلم في ذلك الوقت من الإمكانات المتاحة، كتوافر الكتب ومحلات الوراقين التي لم تكن أماكن لبيع الكتب فحسب، بل كان أصحابها والعاملون فيها على معرفة كبيرة بثقافة العصر، وملمين بكل ما يحتاجه طالب العلم والمعرفة، وكانت كذلك محلات الوراقة أماكن لالتقاء العلماء والأدباء، وأماكن تدور فيها النقاشات الفكرية والعلمية، وكان لمجلس سيف الدولة أثره الكبير على أغلب معاصريه، فاستفاد معظمهم من المناقشات التي كانت تدور فيه.

إذاً كان العلم والتعلم ظاهرة مميزة للدولة الحمدانية، حيث استمرت هذه الظاهرة سمة مميزة لحلب بعد أن سارت على خطاها، فأصبحت معروفة بعلمائها ممن أسهموا في رفع شأن العلوم واللغة والحديث.

----

الكتاب: التاريخ الحضاري للدولة الحمدانية (العصر الذهبي لمدينة حلب)

الكاتب: د. علي حسين درة

الناشر: دار روافد للطباعة والنشر