إن الأشعار الغنائية من الموروثات الشعبية التي تقدم لنا أنموذجاً من الفكر العربي الأصيل والمتواصل من التاريخ القديم إلى الحاضر في كينونته. وعند سماع هذه الموروثات الغنائية من أي قطر عربي يظهر الدم المشترك والأمل الواحد وتتلاشى الحدود المصطنعة، ويشعر السامع بطعم العناق ودفء الأشقاء.

بدأ الكاتب عبد الفتاح قلعه جي كتابه "دراسات ونصوص في الشعر الشعبي الغنائي" بالشعر المطاول: سلطان الشعر الشعبي وأرفع أنواعه. لا يجيد المطاول إلا المتمكنون في فن القصيدة، ويقابل القصيدة التقليدية في شعر الفصحى. وسمي بالمطاول تفريقاً له عن الموال، فما زاد عن اثني عشر بيتاً فهو مطاول. ويتميز باستيفائه لأكثر من وحدة شعورية؛ بينما الموال وحدة شعورية واحدة. وعادةً ما يغنى قسم من المطاول بينما يغنى الموال كاملاً. ويعد شعراء المطاول هم شعراء المواويل، والعكس ليس بالضرورة صحيح. كما أن النظام العروضي للمطاول قائم على شطرين، بينما الموال قائم على شطر واحد. وبالرغم من استعمالهما معاً البحر البسيط، إلا أن المطاول تتنوع موضوعاته: الحب والهجر والشوق، النأي عن الوطن والحنين إليه والشوق إلى الأهل، الموت والتأمل في مصير الإنسان والتفجع بالأحباب، الأخلاق الحميدة والفروسية، الفلسفة الشعبية البسيطة والمصوغة في حكم تجري مجرى الأمثال.

الموال: هو تقاسيم غنائية منفردة على أوتار النفس والكلمة. انتشر بكثرة في مدينة حلب، فلا تخلو سهرة من صوّيت أو أكثر يتعاونون في غناء المواويل حتى مطلع الفجر، فإذا راق جو السهرة، وجمع الحب القلوب، تبارى المغنون في شكر المضيف، ومدح كل صوّيت صوّيت الجماعة الأخرى. وإذا سيطر جو التوتر والتحدي، فإن لغة الحوار الغنائي تجنح للهجوم وتعداد المثالب، حتى تنتهي إلى الاشتباك بالأيدي والضرب بالكراسي والخناجر وسكاكين القندرجية. ودرج العامة على تقسيم الموال بعدد أشطره، وعرف منه: الأربعاوي، الخمساوي، والسبعاوي، التسعاوي، العشراوي، والتنعشاوي.

العتابا

انتشرت العتابا في نهاية القرن الخامس الهجري لدى البدو من سكان البادية، ويحيط الغموض سبب نشأتها. فيما تروي الحكاية الشعبية أن سبب نشأتها يعود إلى فتى من جبل سنجار، أحب فتاة اسمها عتابا، وكان يقضي الليل أمام دارها يعزف لها، حتى استمال قلبها، فخطبها من أهلها وتزوجها، وعاشا معاً حياة سعيدة لا ينغصها إلا الفقر. وذات يوم خرجت مع زوجها للعمل معاً في حقل سيد القرية، فرآها وأعجب بجمالها، ما دفعه إلى إرسال زوجها في مهمة طويلة، وراح يتقرب من عتابا، ويغريها بالمال والثياب، حتى رضيت أن تنتقل إلى قصره للعيش فيه حتى يعود زوجها. وعندما عاد لم يجدها. فرآها وقد طلت من شرفة القصر كأميرة أسطورية، فأمسك معزفه وراح يغني:

عتابا بين بَرْمه وبين لَفْتي/ عتابا ليشْ للْغَير ولّفتي

أنا ما روح للقاضي ولا أفتي/ عتابا بالتلاتهْ مطلّقا

الميجنا

هي مقاطع رباعية شعرية تلازم العتابا غالباً، بحيث تقع بين مقاطع العتابا الرباعية، ويؤديها الكورس، لأنها وجدت بالأصل لتخفيف مأساوية التناوح في العتابا التي تؤدى غناء فردياَ. وغالباً ما تكون الميجنا على وزن الرجز: مستفعلن، مستفعلن، مستفعلن، وهي محطة راحة للمغني ليجمع أفكاره، ويشحذ قواه النفسية ثم ينطلق في عتابا جديدة.

الشدّيات

هي أقدم ألوان الشعر الإيقاعي الغنائي، لكونها ملازمة لحالة الحرب ومناخ المعركة. وغالباً ما تؤدى في أجواء تظاهرية أو استعراضية راقصة. إنها التعبير الشعبي عن النصر بعد المعارك، حيث تعم الأفراح، وتعقد الدبكات في الساحات، وتنشد الشدّيات التي تتحدث عن مفاخر القبيلة في نضالاتها التاريخية وانتصارها الأخير، وتشيد بالبطولات الفردية. مثال:

إن هللتِ هللّنالك/ طقّينا البارود قْبالِك.

وإن هللّتِ يا صبية/ الواحد منّا يْقابِلْ ميّة.

واستعرض الكاتب أغاني الأطفال والفراتين والبادية وأغاني الساحل والجبل وختم بالموشحات والقدود.

----

الكتاب: دراسات ونصوص في الشعر الشعبي الغنائي

الكاتب: عبد الفتاح قلعه جي

الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق، 2009