ينطوي اسم الكتاب "سفر العنقاء.. حفرية ثقافية في الأسطورة"، الذي وضعته منفرداً عنواناً لهذه المادة، على طاقة دلالية تشي بما يذهب إليه المؤلف د. نذير العظمة، من حفر فكري وثقافي، عمودياً وأفقياً، في تاريخ هذه الأسطورة، في عدد من الأعمال الشعرية والأدبية، القديمة والحديثة، التي أفادت من طاقة الكناية والدلالة الغنية لها ووظفتها في كتابات، استعارت المعنى في تشعباته الماضوية من أجل إطلالة على النهوض من الرماد، بكل ما ينطوي عليه هذا من خصب وقوة وحياة جديدة.

لا تذكر العنقاء حتى يحضر طائر الفينيق، وكلا الطائرين في الشعر الحديث علامة على الخصب والنهوض من الموت. فعندما يبلغ الفينيق عتياً من العمر، يجمع حوله الأحطاب ويوقدها فيحترق، ولكنه ينهض من رماده أتم ما يكون شباباً وجمالاً، وفق الموسوعات الميثولوجية الغربية.

ويرى الكاتب أن أسطورة العنقاء "غابت أصولها عنا، فأصبحت مجرد كناية خاوية، واستعادها شعرنا الحديث حية نابضة، في قصائد كاملة. فقد تعاملت قواميسنا معها تعاملاً لغوياً مجرداً وأفرغتها من طاقتها التعبيرية والجمالية ومكتنزاتها الفكرية والإنسانية".

وهذا يعيدنا إلى التراث، حيث يقول الفيروزأبادي: "إنها طائر معروف الاسم مجهول الجسم"، ليؤكد د. العظمة أن ذلك "يقطعها عن جدل الحركة وجدل الأسطورة التي تتحرك بين قطبي الإنسان والكون في استكناه الأسرار والقبض على مخبآت النفس وجوهر العالم".

أما الجاحظ فيرى أن العنقاء ترادف أو تماثل طائر السيمرغ عند الفرس، ويقول: ما أكثر من ينكر أن يكون في الدنيا حيوان يسمى الكركدن، ويزعمون أن هذا وعنقاء مغرب سواء، وإن كانوا يرون صورة العنقاء مصورة في بسط الملوك واسمها عندهم "سيمرك".. كأنه قال "هو" وحده ثلاثون طائراً، لأن قولهم بالفارسية سي هو ثلاثون بالعربية ومرغ هو الطائر.

والسيمرغ كالعنقاء، طائر أسطوري، لكنه يتسم بصفات أخرى في الموروث الفارسي تصله بتجدد الإنسان والحضارة الذي يذكر بطائر الفينيق. وهذه المرادفة "ذات دلالات غنية على تآكل الأسطورة". والعنقاء لن تبقى أسيرة الرماد وستبرز طائراً من لهب وفق المصادر العربية المتأخرة كالقزويني.

وقد كتب أبو حامد الغزالي "1111م" مقطوعة بعنوان "رسالة الطير". وكتب فريد الدين العطار" 1224م" نصاً شعرياً بعنوان "منطق الطير". وكلا العملين "يتمحور حول رحلة للطير للبحث عن معنى الحياة والموت والوصول إلى الحقيقة من خلال مرموزة صوفية أسطورية".

ويلفت الكاتب إلى أن العنقاء تعد رمزاً من رموز تعبير الرؤيا أو تأويلها، وهو علم خاص أتقنه رجال الدين لا سيما النزاعون إلى التصوف، وهو ما يعرف بتفسير الأحلام. "وتعبير الرؤيا عندنا له خلفياته وقواعده التي لا تتصل بنظريات الوعي واللاوعي عند فرويد".

والعنقاء في الحلم تحمل العديد من الرموز، وفق نص للدميري في كتابه "حياة الحيوان الكبرى"، مثل: الرفعة والابتداع، أو الرزق والمكانة العالية، أو الغلبة على من لا نظير له، أو نسل الذكورة والشجاعة.

ويمتد الحفر الفكري والثقافي، في بنية ومفهوم الأسطورة، إلى النتاج الإغريقي والروماني؛ حيث يصف هيرودوت شكل الفينيق ولونه وهيأته ومصدره ورحلته من الصحراء إلى مصر، وجنازته الرمزية، وقد تعددت رؤى الكتاب والشعراء لتفاصيل عدة في حياة وموت الفينيق ومن ثم ولادته.

وفي العصور الوسطى كان للأسطورة حضورها الخاص، ومختلف نوعاً ما، فقد غير شكسبير الصورة التقليدية وجعل الطائر يعبر عن التوق إلى الثأر في مسرحية هنري السادس: "رمادي، كالفينيق يمكن أن يلد.. طائراً سوف يثأر منكم جميعاً". وفي مسرحية هنري الثامن يقول: "وعندما يموت طائر الأعجوبة، الفينيق الأنثى تضع من رمادها وريثاً آخر".

وفي الأدب العربي المعاصر استخدم عدد من الشعراء "العنقاء أو الفينيق" في قصائد مفردة من زاويتين؛ الأولى "الاحتفاظ بالعنقاء كما هي في الموروث، معزولة عن مفردتي الحياة والموت، وإبقاؤها في حيز الكناية رغم أن هذه الكناية تتسع باتساع القصيدة، وتتداخل في الرمز وتكون عاملاً محورياً في وحدة القصيدة كما في قصيدة العنقاء لإيليا أبي ماضي"؛ والثانية "مرادفة العنقاء بالفينيق أو الفينيق بالعنقاء أو تداخلهما كما عند معلوف وحاوي والسياب والبياتي". أما أدونيس، فيصر على الفينيق دونما ذكر للعنقاء، ونذير العظمة لا يذكر لا هذا ولا تلك في القصيدة، ويسميها طائر الفاو معبراً في المضمون عن الاحتراق والموت والانبعاث.

----

الكتاب: سفر العنقاء.. حفرية ثقافية في الأسطورة

الكاتب: د. نذير العظمة

الناشر: وزارة الثقافة، دمشق، 1996