تناول الباحث الدكتور هشام شرابي في كتابه "مقدمات لدراسة المجتمع العربي" خمس مقدمات درس فيها شأن المجتمع العربي، وقدم رؤية تحليلية للشخصية المجتمعية وفق السلوك وبنية العائلة، والاتكالية والعجز والتهرب، ثم طرح الوعي والتغيير، وتحدي الانسان العربي للحضارة، والمثقف العربي والمستقبل.

رأى الدكتور هشام شرابي أن سلوكنا الاجتماعي وبنية العائلة في المجتمع العربي هي في الأساس محاولة لتحقيق المعرفة الذاتية، وإذا كان الوعي الصحيح أساساً للنقد البناء، فهو أيضاً أساس السلوك العقلاني، ورأى أن أي تغيير فعلي في مجتمع ما، لا يمكنه أن ينبثق إلا من صميم ذلك المجتمع (أي بتغيير الذات)، فالتحرر الصحيح لا يمكن أن يحصل إلا من قلب المجتمع (أي التحرر الذاتي)، والمعرفة السليمة للمجتمع تصدر عنه. وإذا كان يُقصد بالمعرفة العمل لا الفكر المجرد فحسب، فيجب أن تكون معرفة ذاتية قائمة على معرفة النفس ومستمدة من اختبار داخلي صميم، بحيث يمكن أن تتعرض عند نشرها في العربية إلى كل أنواع الهجوم من جانب المجتمع التي هي موجهة إليه.

إن علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا واختصاصيين بعلم النفس الاجتماعي والعلوم السياسية، حين تناولوا قضية العائلة وتكوين الشخصية في إطار العائلة، ركزوا بالتحليل على الارتباط الموجود بين العائلة والمجتمع الذي تعيش فيه، وعلى أثر طرق تربية الطفل وتجارب الطفولة في تكوين السلوك الاجتماعي في الفرد. إن العائلة كمؤسسة اجتماعية، هي الوسيط الرئيسي بين شخصية الفرد والحضـارة الاجتماعية التي ينتمي إليها، وإن شخصية الفرد تتكون ضمن العائلة، وإن قيم المجتمع وأنماط السلوك فيه تنتقل إلى حد كبير من خلال العائلة وتتقوى بواسطتها.

تناول الدكتور شرابي الاتكالية، العجز، التهرب، ودرس بعض نتائج التربية البورجوازية - الإقطاعية في تكوين شخصية الفرد، بوصفها لا تنطبق على المجتمع ككل بل على الشخصية البورجوازيةـ الإقطاعية، رغم أن القيم والقواعد التي تتحكم في السلوك البورجوازي، الإقطاعي لا يمكن أن نعزوها للجماعة ككل، لأنها تنبع من الثقافة الطبقية. فالثقافة البورجوازية، الإقطاعية لا يمكنها أن تطبع الثقافة القومية بطابعها الخاص إلا بقدر ما تكون عامة الشعب مشاركة في قيمها وتطلعاتها وخاضعة لأيديولوجيتها. إن تغيير الشخصية البورجوازية، الإقطاعية، بالمعنى الدقيق للكلمة، حصيلة المجتمع البورجوازي، الإقطاعي، إذ لا يمكنه أن يتم إلا بتغيير ذلك المجتمع وتركيبه الطبقي. وإذا توخينا فهم ديناميكية تغيير كهذا والشروط النوعية اللازمة لتحقيقه، فلا بد من التحليل النفسي الفلسفي لبعض الجوانب الأساسية في السلوك الاجتماعي، مع العلم أن خصائص الاتكالية والعجز والتهرب، هي من صميم السلوك البورجوازي، الإقطاعي.

ويشير الباحث إلى أن التحالف الذي يجابهه كل طفل، هو تحالف العائلة والمجتمع، وهو يكاد يكون تحالفاً لا يقهر. وإذا كان الامر كذلك، فكيف لنا أن نحدث تغييراً في المجتمع؟ فالمجتمع لا يمكن تغييره إلا بتغيير العائلة، والعائلة لا يمكن تغييرها إلا بتغيير المجتمع. والاثنان مترابطان بشكل لا يقبل التفرقة. من هنا كانت أهمية الإدراك الذاتي، والمعرفة النقدية والوعي الاجتماعي، وإدراكهما عملاً، في معالجة هذه المعضلة.

وفي مجال الإنسان العربي والتحدي الحضاري يطرح السؤال: ما القصد بالتحدي الحضاري؟ ويطرح الحل بأسلوبين؛ الأول ينطلق من التعميمات الواسعة بتناول مشكلة الحضارة من زاوية الفكر الخطابي المجرد لينتهي إلى الوعظ والتبشير، وهذا هو الأسلوب الأسهل وربما الأكثر متعة؛ أما الأسلوب الآخر فينطلق من قاعدة الواقع الاجتماعي ويتناول القضايا المطروحة من زاوية التحليل العلمي ليتوصل إلى فهم رصين يشكل بداية العمل في صلب الواقع من أجل تغييره وتجاوزه. والأسلوب الثاني هو الأصعب ليس لأنه الأكثر تعقيداً، بل يثير قضايا حساسة ويتطلب التسليم بالحقيقة الجارحة والمؤلمة أحياناً.

حول المثقف العربي والمستقبل حدد الكاتب المثقفين بأربع فئات، تتألف الفئة الأولى من المثقفين الملتزمين، وأولئك الذين يتطابق عندهم الفكر والممارسة بحيث لا يمكن التفريق بين حياتهم الخاصة وحياتهم العامة، وهؤلاء يقدمون حياتهم للقضية ولهدف اجتماعي، فيصبح مصيرهم ومصير قضيتهم واحداً. ويعتبر هذا أعلى أنواع الالتزام، وتشكل هذه الفئة من المثقفين في مجتمعنا، وفي كل مجتمع، الأقلية الضئيلة بين المثقفين، إلا أنها الطليعة المسؤولة عن التغييرات الأساسية التي تحدث في المجتمع وتشكل أداة انتقاله من مستوى إلى مستوى أعلى. ومن الناحية الاجتماعية، فإن الذين ينتمون إلى هذه الفئة مثقفون ينبثقون من خلفيات وطبقات اجتماعية مختلفة، من دون اختصاص أو مهنة معينة، بل وعي واحد وممارسة واحدة، فتجد الطبيب إلى جانب الطالب، والأستاذ إلى جانب العامل والفلاح.

والفئة الثانية من المثقفين، من "أهل القلم"، من الأدباء والكتاب والمفكرين العاملين اجتماعياً بالكلمة لا بالممارسة المباشرة. ويعتمد دور هذه الفئة في عملية التغيير الاجتماعي على تأثيرها في الرأي العام وقدرتها على تغيير الوعي الاجتماعي ودفعه نحو آفاق جديدة. وهذا التأثير لا يظهر إلا في المدى الطويل، إذ إن العمل الفكري لا يشكل عملاً إلا عندما يصبح قوة مادية تفعل في المجتمع وتغيره مادياً، وهذا يأخذ وقتاً طويلاً. ومن الواضح أن التزام هذه الفئة من المثقفين هو التزام معنوي، فممارستهم ممارسة فكرية، لا تفرض عليهم نمط حياة معينة.

والفئة الثالثة تتألف من العاملين في حقل التثقيف والتعليم من الأساتذة والمعلمين، وتأثيرهم في العمل الاجتماعي هو نتيجة عملية التعليم المباشر التي يمارسونها، كتأثير الفئة الثانية، طويل المدى يرتبط بحياة الجيل الصاعد. والتزام هذه الفئة من الأساتذة والمعلمين، التزام فكري معنوي، فهم كالكتاب والأدباء يمارسون العمل الاجتماعي دون الانخراط المباشر في صراعات المجتمـع وانهماكاته.

والفئة الرابعة، تتألف من المهنيين، أي من الاخصائيين والتكنوقراطيين العاملين في الحقول العلمية والصناعية والإدارية المختلفة. وهذه الفئة من المثقفين تشكل في كل المجتمعات الفئة الأكثر بعداً عن الوعي الأيديولوجي والسياسي.

----

الكتاب: مقدمات لدراسة المجتمع العربي

الكاتب: الدكتور هشام شرابي

الناشر: دار نلسن، 1999