تتميز المنطقة العربية بموقعها الجغرافي الذي وضعها في منطقة على تماس مباشر مع بلدان "العالم القديم"، ونعني على وجه التحديد بلاد الهند والصين وجيرانهما. وقد نشأت الحضارة العربية الإسلامية في خضم تفاعل كبير وغني على الصعيد المعرفي "المتدرج"، لكن فصول تلك المعرفة لم تخل من تصورات خاصة ناتجة عن الغموض المسبق في توين صور خاصة لتلك الشعوب، وخيال عربي رسم بعضاً من الملامح الفكرية والثقافية لشعوب الشرق الأقصى.

استفاد العرب من وجودهم في منطقة "تجارية عالمية كبرى ما أهلهم لأن يتغذوا بالثقافات الأخرى، ويتجاذبوا معها الخبرات من موقع الاقتدار والثقة بالذات".

كتاب "الآخر في الثقافة العربية" لشمس الدين الكيلاني يأخذ القارئ في رحلة غنية على المستوى المعرفي والثقافي، بوجه عام، لتلك الشعوب في فترة العصور الوسيطة للوقوف على ملامح وتفاصيل الصورة التي كونها العرب عن "حضارات الشرق الأقصى في الهند والصين وجيرانها في البحر والبر، وتمثلوها في ثقافتهم في العصر الوسيط بما تتضمنه من معارف عن حال تلك الحضارات، وفي أنماط السلوك الثقافي لسكانها، وما اختزنته من أحكام ومعايير ومتخيلات عنها، ومن تحيزات تعود إلى طبيعة تلك العلاقات التي ربطت العرب بأصحاب تلك الحضارة".

اعتمد الباحث في فصول كتابه على منهجية الحفر في أروقة الثقافة العربية، وعلى اختلاف تصانيفها ومدوناتها منذ بداية عصر التدوين في القرن الثاني الهجري "الثامن الميلادي" مستفيدة من احتكاك العرب المبكر بها، في البحر والبر، عن طريق التجارة والترحال ومناوشات الحدود والاقتباسات الثقافية المتبادلة.

ومن المعروف أن احتكاك العرب ومعرفتهم للهنود والصينيين تعود إلى ما قبل الإسلام بسبب دور الوسيط التجاري "ما بين عالم المتوسط وبلاد الشرق حتى أثناء سيطرة اليونان وما بعدهم الرومان على مصر وبعض بلدان المشرق العربي".

وتمثلت أشكال التجارة آنذاك بالعديد من الصور فقد كان العرب "يأتون من الشرق الأقصى بالأحجار الثمينة والتوابل مقابل بضائع مصرية، وحملوا البهارات والموسلين، أما من الهند مباشرة أو من التجار الهنود في موانئهم في خليج عدن، وبفضل هذه التجارة الرابحة وتلك الاتصالات المستمرة شيد العرب حضارة زاهية مركزها سبأ".

أما بعد الإسلام فقد توسعت الامبراطورية الإسلامية بشكل كبير حيث كانت حدودها تمتد مت الشواطئ الإسبانية إلى قلب الهند، وتجولت سفنهم في أهم مضايق العالم القديم ومحيطاته "وشكلت صلة الوصل بين منطقتين اقتصاديتين عظيمتين، منطقة المحيط الهندي ومنطقة البحر الأبيض المتوسط، هاتان المنطقتان اللتان توحدتا في العصر الهلنستي ثم انفصلتا إلى عالمين متنافسين: الروماني- البيزنطي، والبارثي – الساساني، امتزجتا من جديد بفضل الفتح الإسلامي في منطقة جديدة واسعة موحدة اقتصادياً".

وقد تأثر العرب بمعارف وعلوم حضارات الدول التي وصلتها، ويدين المسلمون للهنود، قبل اليونانيين، بالتأثر بشتى ألوان المعرفة والثقافة الجديدة سواء في الفلسفة أو الرياضيات. ويؤكد ذلك أن أول كتب الفلك والرياضيات التي وصلت لى بلاط الخلافة أيام المنصور العباسي هو كتاب "إبراهيم سد هانتا" لمؤلفه برهمكت الذي يعود زمن تأليفه إلى 425 ق.م. وكتاب "أربه بهت" المعروف باسم "أرجهند" أعظم الفلكيين والرياضيين الهنود، وهو أول الكتب التي يظن أن العرب تعلموا منها الأرقام الحسابية والنظام العشري.

وفي عصر المأمون لقيت حركة الترجمة تشجيعاً حاراً فنهلوا من الأدب اليوناني، واختصرت حركة النقل على المؤلفات العلمية التي يسهل تطبيقها وعلى الفلسفة.

أما بالنسبة للصين فقد "اقتبس العرب منها صناعة الورق والبارود، ونقلوها إلى شمال أفريقيا ومنها إلى الأندلس وأوروبا، وتعلم العرب أيضاً من فنونهم الدقيقة نسيج الأقمشة الحريرية، وصناعة التحف الذهبية والفضية، فضلاً عن النقش".

وفي مخيلة الجغرافيين العرب، اقترن الشرق الأقصى، بجذور الجبل الكوني وسموه "جبل قاف" الذي ينتصب على حدود الصين الشرقية "ويعرفنا ابن رسته بهذا الجبل بقوله: إن حول الأرض جبلاً محيطاً بالأرض وأن الشمس تطلع من حد ذلك الجبل في وقت واحد". و"يشير المسعودي إلى أن سد الصين الذي يعزو بناءه إلى الإسكندرية قد أقيم على حافة الجبل الكوني هذا، لصد الشعوب الغامضة –ياجوج وماجوج – التي تقبع خلقه، ثم يمتد من الصين حتى الحدود القصوى للعمران في المغرب".

يلقي الكتاب الضوء على الحدود التي وصلت إليها المعرفة العربية، بمعايير الأحكام على الآخر، ومن خلال الرموز والدلالات المستندة إلى مرجعيات دينية وسياسية ومعرفية التي تشكل "القبة الرمزية للثقافة العربية آنذاك والإطار المرجعي للمدونات العربية التي تناولت حضارات الشرق الأقصى".

----

الكتاب: الآخر في الثقافة العربية

الكاتب: شمس الدين الكيلاني

الناشر: وزارة الثقافة – الهيئة العامة السورية للكتاب