كثر من قرؤوا "رسالة الغفران" لأبي العلاء المعري وقدموا لها شرحاً وفق الرؤية الفلسفية التي اعتمدها في الاتكاء على نظرته المعرفية، ولكن الكاتب علي حسن فاعور اعتمد في وضعه للمقدمة والحواشي على أسلوب متنوع ومتبدل في ذلك.

يشير الكاتب إلى أنه تردد كثيراً قبل أن يباشر بهذا العمل الجديد، يقيناً أن الخوض في "رسالة الغفران"، ليس بالسهـل اليسير، فصاحب الـرسـالـة ليـس بـالفيلسوف ذي المذهب الفلسفي الواضح، وإنما هو، كما قيل "فيلسوف بـدون فلسفة، فلم يعن بتحليـل الكائنات، بل نظر إليها نظرة الحكيم الذي عاش في جو اضطربت فيه الآراء الفلسفية والعلمية، واصطرعت فيه التيارات المذهبية والفكرية، فراح في نزعته القرمطيـة يقيم للحياة دستوراً خاصاً، وينثر أفكاراً، ويرسل أقوالا في غير بناء ولا تعليل".

وقد أوقع أبي العلاء التردد في جمهور الباحثين والمؤرخين، وفي حيرة ظاهرة، ولذلك يقول الأستاذ علي حسن فاعور: "رحت أتنكب طـريقهم وأقتفي أثرهم، والتمس آراءهم، تلك الآراء التي ساقها كل على هواه، فقال بعضهم بالسيطرة العاطفية على عقل المعري، وقال غيرهم بالتدرج الفكري والتطور التفكيري عند الرجل، وقال آخرون غير ذلك، ولكن الحقيقة أن أبا العلاء يذهب مذهب إخوان الصفاء في أمور شتى".

من هو أبو العلاء المعري؟

هو أحمد بن عبد الله بن سليمان بن محمد التنوخي، المعروف بأبي العلاء ولد في معرة النعمان سنة 973، وقد أصيب في طفولته بداء الجـدري وفقد بصـره. ولكن ذلك لم يحل دون تحصيله للثقافة الواسعة، فراح يطوف في البلاد باحثاً منقباً، مختلفاً إلى المكتبات ودور العلم، متردداً على العلماء والـرهـبـان، حتى استقامت له ثقافة ذات شأن، فبرع في نظم الشعر، وتفنن في تدبيج الرسائل.

اختلف أبو العلاء إلى دور العلم ومجالس إخوان الصفاء، وعاشر النخبة من المثقفين، فكـان لـه في عـاصمـة الخـلافـة أثـر ضخم أثـار عجب المعجبين وكيـد الحاسدين. وفيما هو في زحمة الحياة حمل إليه البريد نبأ مرض والدته، فترك بغداد قاصداً المعرة، وفيما هو في الطريق توفيت، فجزع عليها جزعاً شديداً، وتركت وفاتها عميق الأثر في نفسه مما زاده تشاؤماً وحمله على الزهد والاعتزال، فلزم بيته في المعرة. وسمى نفسه "رهين المحبسين" ونظم ديوانه الفلسفي "اللزوميات" كما وضع "رسالة الغفران"، التي نحن بصددها. كان شيخ المعرة مطمح الأنظار ومحط الآمـال، يقصده طلاب العلم ومريدو الفلسفة، يغترفون من بحره، ويعبـون من علمه، حتى كانت وفاته سنة 1058 للميلاد، فضجت لـرحيله البلاد، ورثى الشعراء من كان ولا يزال "فيلسوف الشعراء وشـاعـر الفلاسفة".

كان زاهداً في مأكله، خشناً في ملبسه، فراشه اللبد والحصيـر، يتجنب أصناف اللحوم والصيـد والبيض، ولم يكن يستبيح شرب الخمرة، واللزوميات طافحة بذمها والتحذير منها، وكان مواظباً على الصلاة كثير الحض عليها، وشيخ المعرة وافر العلم، غزير المادة، له يد في الحديث والفقه، وباع طويل في اللغة والنحو والأدب، ملماً بعلم الملل والنحل والأديان. وصفحات "الغفران" مترعة بذلك. كما كان على اطلاع واسع بالتاريخ والأخبار، ولم يفته علم النجوم والتيارات الفلسفية كانت شائعة في عصره.

من آثاره "سقط الزند"، وهو ديوان شعر يحتوي على أكثر من ثلاثة آلاف بيت، وسماه أبو العلاء بذلك لأن السقط هو ما سقط بين الـزنـديـن قبـل استحكام الوري، فشبه بهذه النار الأولى شعره الأول. ولهذا الديوان شـروح كثيرة منهـا "ضوء السقط" لأبي العلاء نفسه. و"لزوم ما لا يلزم"، وهو ديوان شعـر كبير يحتـوي نحو أحـد عشر ألف بيت وكله فلسفة واعتبار ونقد للحياة، وسماه بذلك لأنه التزم قبل الروي حرفاً إذا غيـر لـم يكن مخلاً بالنظم.

"رسالة الغفران" هي الرسالة التي كتبها إلى علي بن منصور الحلبي المعروف "بابن القـارح" جواباً على رسالة أرسلها إليه يذكر فيها شوقه إلى لقائه، وينحى فيها على الزنادقة، وينقص الوزير المغربي صديق أبي العلاء، فأجابه هذا برسالة طويلة ما هي إلا "كوميديا إلهية" مسرحها الجنة والنار، وقد ضمها فنوناً شتى من اللغة والأدب والأخبار.

والواقع أن العالم النفسي لأبي العلاء في رسالته هذه كان متأثراً بموقفه من المجتمع الذي كان يعيشه، من هنا فقد كان تصويره لشخصيات الـرسـالـة تصويـراً ناطقاً، ولا سيما ذلك الوصف الذي تناول به "بشار بن برد"، الذي حرم بصره في الدنيا ثم أعيد إليه في الآخرة، لا ليسر به، بل ليبصر أنواع العذاب ويذوق طعمها.

اما شخصيات "رسالة الغفران"، فقد اصطفاهـا أبو العلاء، على شاكلته، من عالم الشعراء واللغويين والمغنين، وذلك لتأليف وحدة مسرحية مكتملة العناصر، ناطقة بما كان يدور في عالمه النفسي والخيالي. وترى بنت الشاطئ أن رسالة الغفران هي مسرحية تتألف من ثلاثة فصول هي: "الجنة والجحيم، ثم العودة إلى الجنة". وتبدأ هذه المسرحية برفع الستارة عن "ابن القارح" ونهوضه من قبـره تلبية لنافخ الصور كما لبى سكان القبور. وهكذا فإن بدايات الرسالة إنما هي محاولة ابن القـارح الولوج إلى الجنة بعد نيل الشفاعة والمغفرة، وهناك يجتمع إلى من نعموا بالفـور، ثم يعرج على النار فيتحدث إلى من تشملهم المغفرة.

لقد جعل أبو العلاء المعري رسالته موزعة في عدة وحدات كالنار والجنات المختلفة في طبيعتها وأماكنها: كجنة الإنس وجنة العفاريت وجنة الحيوانات والجنة اليانعة المزهرة المثمرة والجنة الذابلة القاحطة التي تكاد تشرف على النار. وتبعاً لهذا التوزيع راح أبو العلاء يفلسف الماضي والمستقبل، من خلال تركيزه على الوحدة الشعرية التي تلعب دوراً فعالاً في رسالة الغفران، فجعـل المشهد الأول تدور أحداثه ووقائعه في الجنة، والمشهد الثاني تدور أحداثه ووقائعه في النار. واختار لمن اصطفاهم في جنته صفات فلسفية تتوافق إلى حد بعيـد المبادئ الفلسفية التي آمن بها، وهكذا فمهما كان مدح علي بن منصور "ابن القارح" لخازن الجنة، فإنه لم يشفع له بالدخول إليها، وذلك لأن المبادئ الفلسفية والقيم الأخلاقية في النعيم لا تنسجم مع ما جاء به علي بن منصور في شعره من الأحاسيس والمشاعر العشوائية التي كان يقرظ بها خزنة الجنة. أما النار فقـد جعل وقـودها الشعر والشعراء الخارجين عن معادلته الفلسفية والأخلاقية.

----

الكتاب: رسالة الغفران أبو العلاء المعري

وضع حواشيه وقدم له: الأستاذ علي حسن فاعور

الناشر: دار الكتب العلمية بيروت-لبنان 1990