يحمل علم اللسانيات اللغوية مجموعة كبيرة من العلوم المتداخلة في ماهية اللغة منها الصوت، والصرف والنحو، والتداولية، والدلالات والمعاني وغيرها، وقد استطاع الاستاذ الدكتور مجيد الماشطة صاحب كتاب "شظايا لسانية" أن يوضح علم اللسانيات ويخرج مخزون الجمال اللغوي من تعدد الدلالات المتنوعة إلى البعد الفكري واللغوي لكل نوع من الدلالة.

بدأ الكاتب بتعريف اللغة كواسطة تفاهم، والتي تتألف من عـدد لامتنـاه مـن الجمـل، بهـذا يـكـون للغـة وجهان وجه شكلي ووجه وظيفي. فعلى الصعيد الشكلي تتألف الجملة من مجموعة كلمات وهذه تتألف بدورها من مجموعة أصوات، والصوت وحدة لغوية صغرى ولا تعني هذه الوحدة شيئاً بحد ذاتها، إلا أنها تحدد معنى ما تشير اليه باتحادها مع وحدات أخرى في مستواها. ويتم اتحاد الأصوات في مجاميع لتكوين الكلمات التي تتحد لتكوين الجمل ضمن ضوابط تتحكم في عملية الاتحاد وفي تحديد العناصر التي مع بعضها وضمن قوانين تصف طبيعة كل من هذه المستويات الثلاثة وهي الجملة والكلمة والصوت.

تتميز هذه الضوابط أو القوانين وتسمى "قواعد اللغة" بمحدودية عددها قياساً بعدد الجمل أو الكلمات في اللغة. ونظراً لوجود ثلاثة مستويات شكلية للبنية في اللغة الصوت والكلمة والجملة، تنقسم دراسة اللغة لغرض الملاءمة إلى ثلاثة علوم هي علم الصوت وعلم الصرف وعلم النحو. ولتوضيح الفكرة يمكن القول إن الأصوات (س م ع) قد تتحد في كلمة (سمع) لكنها لا تتحد في (معس)، بهذا يمكن تعريف القواعـد بأنهـا القـوانين او الضوابط التي تحدد الاتحادات المسموح بها في اللغة على المستويات الصوتية والصرفية والنحوية. أما على الصعيد الوظيفي فاللغة وسيلة اتصال أو مهارة اجتماعية معينة لإرضاء حاجات الفرد والمجتمع. إنها ضرورة حياتية تفوق في أهميتها وفائدتها وتعقيدها كل الأنظمة الاتصالية الأخرى في الحياة مجتمعة من رسم وموسيقى ورقص وإشارات مرور وتعابير وجه وغيرها. والسؤال: هل اللغة نظام مفتوح أم مغلق؟

يؤكد الباحث د. الماشطة أن اللغة في الواقع نظام مغلق من الناحية الشكلية، لأن القوانين القواعدية لغوية بحتة، فهي لا تتأثر بالعوامل الشخصية والبيئية والاجتماعية، فتعلّم لغة ما يعني من بين مجموعة أشياء تعلّم صحتها الاجتماعية أي التداولية أي استخدام العبارة المناسبة في السياق المناسب. ففي جملة "أمر الطفل والده أن يسامحه"، تتوفر صحة القواعد بمعنى أن الجملة صحيحة قواعدياً، وأنها سليمة شكلياً، إلا أنها غير مقبولة وظيفياً، لأنها استعملت الفعل أمر في غير موقعه الصحيح والمفصل الذي يربط الجانبين الشكلي والوظيفي للغة هو علم الدلالة.

ونوه الكاتب إلى أن علم الدلالة يضفي كل المعاني الممكنة على الوحدات التي تسمح القواعد بها، لتمكين المتكلم من استخدامها بالشكل المقبول اجتماعياً. ويستلزم تعلم لغة ما تطوير القدرة على ربط ألفاظها بما تشير إليه من أشياء ملموسة أو محسوسة ربطاً اعتباطياً في معظم الحالات. ويلخص روجر بيل هذه العلاقة في: "النحو، الدلالة، التداولية، الكلام".

وحول نشأة اللغة أشار الدكتور مجيد الماشطة إلى أنها نتاج حضاري أو ظاهرة متوارثة حضارياً، ونظراً لتباين الحضارات تباينت اللغات، وكما تتشعب اللغة أحياناً إلى عدة لغات تحل محلها. فتشعبت اللغة الجرمانية في القرن الخامس الميلادي إلى الألمانية والإنجليزية والسويدية والنرويجية، وتشعبت العائلة السامية إلى العربية والأكدية والحبشية. ومع هذا التنوع الكبير يتساءل المختصون أحياناً عن اللغة الأقدم، إن كانت هناك لغة أقدم، وعن طبيعة العلاقات بين اللغات المختلفة.

وأكد الباحث أن هردر ذهب إلى أن الإنسان لاحظ بعض الظواهر المتكررة وسماها تسميات معينة، وبذلك كانت حاسة السمع أولى الحواس المستخدمة في الكلام، وتبع ذلك أسماء الأشياء الأخرى التي تعرف عليها بواسطة الحواس الأخرى. وهكذا تجمعت لديـه مفردات بسيطة محصورة بالأشياء القابلة للملاحظة بمرور الزمن، كما يقول هردر ثم تطورت قدرة الإنسان على التفكير، وظهرت كلمات جديدة وأصناف قواعدية معقدة.

بما أن الجملة تعبر وظيفياً عن فكرة، فإن عدد الجمل في أي لغة من العالم غير محدود، بالإمكان التعبير عن أية فكرة ترد إلى الذهن، ولا فرق في ذلك بين لغات العالم المتطور ولغات المجتمعات البدائية. ويتوجب هنا القول إن تصنيف اللغات إلى متطورة وبدائية، إنما هو خطأ شائع. المجتمع الناطق بلغة ما هو المتطور أو البدائي، أما الكلمات فعددها محدود في اللغة، وبإمكاننا نظرياً إحصاء عدد الكلمات في أي لغة، غير أن هذا الاحصاء لن يكون دقيقاً أبداً، لأن هذا العدد يتزايد أو يتناقص يومياً، ذلك أن اللغة مرآة الحضارة وهي تعكس مدى التطور العلمي والتقني للناطقين بها عبر مفرداتها وعدد هذه المفردات، ولا يقصد بالمفردات هنا الكلمات المتحجرة في القواميس، إنما المتداولة في الاستعمال اليومي للغة. هذا ويتناسب عدد مفردات لغة ما طردياً مع المستوى الحضاري والتقني للناطقين بها. وأما الأصوات فعددها في اللغات يتراوح بين خمسة عشر صوتاً وتسعين صـوتاً، واختارت أغلب اللغات المعروفة الحد الوسط أي حوالي أربعين صوتاً، وتقدر لغات العالم حالياً بحوالي ستة آلاف لغة.

لماذا علم الدلالة؟

يعني علم الدلالة ببساطة دراسة المعنى، ودراسة المعنى قديمة، فقد درسـه العـرب وغير العرب منذ أيام أفلاطون إلى حد الآن، وسمى العرب هذه الدراسة بعلم المعاني بإعطائها بعداً بلاغياً، فقد وضع الجرجاني نظرية علم المعاني وعرفه السكاكي بقوله: "إنه تتبع خواص تراكيب الكلام على ما يقتضي الحال ذكره".

وحدد أحمد الهاشمي هدفين رئيسين لعلم المعاني العربي أولهما معرفة إعجاز القرآن الكريم من جهة ما خص الله به من جودة السبك وحسن الوصف وبراعة التركيب ولطف الإيجاز، والثاني الوقوف على أسرار البلاغة والفصاحة في منثور كلام العرب ومنظومه.

وأوضح عن علم الدلالة المنطقي أن أول من طرق بابه في الأدبيات اللسانية الإنجليزية كان فرانك بالمر ثم جـون لاينز، فما المقصود بعلم الدلالة المنطقي؟

يقصد بعلم الدلالة المنطقي دراسة المعنى بمنظور منطقي على قدر ما تسمح به اللغة، ويعرفه لاينز بقوله: "دراسة المعنى بالاستعانة بالمنطق الرياضي".

أما علم الدلالة المفردي فقد أهملت اللسانيات في الماضي عمـداَ التفاعـل القائم بين المعرفة اللغوية والمعرفة اللالغوية، وطورت خلال طرائق بحثية متقنة أتت أكلها في حقول الصوت والصرف والنحو، وتعثرت في حقول الدلالة والتداولية، لهذا شهد العقدان الأخيران تعاوناَ بين اللسانيات والحاسوبية في مجال علم الدلالة المفردي بالذات، وانشطر علـم الدلالة المفردي إلى شطرين، شطر مسنود نحوياَ وشطر مسنود معرفياً أو لالغوياَ.

----

الكتاب: شظايا لسانية

اسم المؤلف: د. مجيد الماشطة

الناشر: دار السياب، لندن،