ارتبطت اللغة العربية منذ استقراء قواعدها في القرنين الهجريين الأول والثاني بالنصوص العليا، ما فرض بالاستتباع على العصور اللاحقة التعامل مع الظاهرة اللغوية تعاملاً مثالياً، وقد نتج عن تلك المثالية أن صار البحث اللغوي مُصادراً من حيث النتائج، بل استحال البحث إلى أداة لتسويغ وضعية النصوص العليا تسويغاً لا يقبل معه حكماً عقلياً مخالفاً.

لقد أرسى ابن جني القواعد المثالية للعربية وناقش أصلها وما انتهت إليه، لكن على الرغم من أهمية ابن جني في تاريخ العربية وتأصيله للدرس اللغوي فلسفة وتحليلاً، فإنه لم يقوَ على مغادرة المثالية التي تحكم انشغاله على طبيعتها ووظيفتها.

وفي العصر الحاضر أعلن كثير من الباحثين خاصة من الاتجاه القومي الليبرالي أو الآخر العلماني عن القلق تجاه جمود العربية أمام حركية اللغات الحديثة وتناغمها مع النهضة العلمية والأخرى الفكرية في العوالم الحديثة، فمثلاً يبين ياسين الحافظ العروبي التوجه أن الرؤية المحافظة والخيالية هي وحدها التي تضع البشر في خدمة اللغة، في حين أن الرؤيا الواقعية تضع اللغة في خدمة البشر، وأن العربية اليوم هي التي تستخدمنا ولسنا نحن من يستخدمها.

وفي هذا السياق يتأرجح المفكر اللغوي عمر فروخ بين الانبهارية بالعربية وبين نزعة انتقادية للتاريخ، فيبيّن أن اللغة العربية هي أقدم اللغات التي لا تزال تتمتع بخصائصها من ألفاظ وتراكيب وصرف ونحو وأدب وخيال، مع الاستطاعة في التعبير عن مدارك العلم المختلفة.

وفي الموروث اللغوي العربي ساد المنهج المعياري لدى العلماء الأوائل خاصة في مشكلة الاستقصاء، سواء في تعيين المناطق التي تعد مصدراً موثوقاً للفطرة اللغوية أم في عملية الاستقراء، وقد وصف الواقع العينات المكانية محدوداً إذا ما قيس بعملية الاستقراء المعياري الذي أخضع المادة اللغوية المدروسة لشكل أحادي في (التقعيد) ويعني استخراج القاعدة بطريقة الاستقراء الناقص، كأن يحدد المثال الذي يجب الاهتداء به على أنه الأنموذج المقابل للتعميم والذي ينبغي القياس عليه.

ومن الملاحظ على المبحث التراثي اللغوي ظهور الفروق الجزئية في المادة المدروسة، حيث تم الدرس عبر النظام المعياري بطرائق الافتراض والتقدير والتجويز والتأويل، وقد كان التجويز الراجح أو المرجوح عليه مخرجاً مهماً للمآزق التي وقع فيها النحاة واللغويون في القرن الثاني والثالث الهجريين.

اللغة والفلاسفة

يُعد الفيلسوف الألماني يوهان غوتفرير هيردر أول من تبنى مشكلة أولية اللغة على العقل، ولقد أفصح عن مشروعه في الربط بين خصائص اللغة وخصائص الأمة التي تنطقها، معلناً أن كل أمة تتكلم كما تفكر وتفكر كما تتكلم، وأن ربات المعرفة البشرية الحقيقية والجمال والفضيلة قد أصبحت آلهة بمقدار ما هي اللغة القومية كذلك، ترسم الحدود وتخط المحيط لكل معرفة بشرية.

من جانبه بيّن الفيلسوف فرنسيس بيكون في القرن السابع عشر أننا نستطيع أن نستشف دلائل ملموسة لأخلاق الشعوب وعقولها من خلال لغتها، أما هايدغر فقد رأى أنه يمكن أن نجعل من اللغة طريقة فكر فلسفية، كذلك همبولت الذي اقترح مذهب الأبحاث التاريخية في اللغات، وهو المنهج الذي يثبت أنه ذو قيمة كبيرة خاصة بعد أن عزز النجاح الواسع للمنهج الدارويني في علمي اللغة والتاريخ على أنهما المبعث التاريخي لهمبولت.

الاستشراق والعربية

لقد انصبّ اهتمام المستشرقين في الأطوار الأولى على اللغة العربية، وكان الاهتمام مستمراً وشاملاً حتى وصل إلى البنية النحوية للغة، ولم يكن الدرس الاستشراقي ليهتم بالشأن الداخلي للعربية لولا صلة هذه اللغة بالشأن الخارجي للأمم.

ولعل ارتباط علوم العربية بالعلوم الإسلامية كان الباعث الأهم للاستشراق، فلم يكن بالإمكان تحليل النظم الفكرية للمدونات التي نشأت في رعاية دولة الخلافة العباسية لولا تملك المستشرقين للبنية اللغوية العربية، وفي هذا السياق فقد كتب المستشرق "وايس" إن اللغة العربية على درجة كبيرة من الأهمية، وتبدو أهميتها تتجاوز دورها الفاعل والكبير في تاريخ الدرس اللغوي عامة إلى فعل وظيفي فاعل في تاريخ الفكر الإنساني على الإطلاق.

ولقد كان وليم بدويل من المستشرقين الذين رغّبوا الغرب في تعلم العربية كونها أهم لغة للسياسة والعمل، كذلك تُعد إيطاليا البادئة الأهم في العلاقات التجارية مع الشرق العربي، ومن المعروف أن أهل البندقية اهتموا باللغة العربية إلى جانب اللغات الأخرى التي تخدمهم في التبادلات التجارية،

وفي الإبداعات العربية الحديثة يبدو الاستشراق الألماني هو الأكثر حيوية من غيره، خاصة في الاهتمام بالآداب العربية الحديثة، ويمكن أن يسوغ هذا الاهتمام من جانبين، الأول هو الاهتمام بانعكاسات الكتاب المقدس في اللغات الحية لا سيما اللغة العربية، والثاني هو المشروع الألماني في النهضة بعد الحرب العالمية الثانية.

----

الكتاب: العربية بين الواحدية المثالية والتحولات الواقعية

الكاتب: د. صلاح الدين أحمد يونس

الناشر: اتحاد الكتاب العرب، دمشق