منذ بداية الثقافة المكتوبة، نشأ الناس مع الكتب التي يحبونها أو يتعلمونها، وكل مرحلة من مراحل الطفولة حددت نفسها بمناهج جديدة: قصص مألوفة تعاد قراءتها، وكُتّاب جدد يضافون إلى المنهاج.

في زمن اليونان والرومان القدامى كان نمو الطفل من خلال الكتاب، وإذا كان هناك أدب للأطفال في تلك الفترة، فقد تمثل في النصوص والحكايات التي كانت تكيّف لهم من المراجع السائدة في حياة اليونان والرومان ومكتباتهم.

ولقد تركزت حياة الأطفال خلال ألف عام على الأداء، وكان قطبا التعلم المبكر للطفل (الحفظ والإلقاء)، ولطالما كان النظر في أدب الأطفال في العصور الكلاسيكية القديمة يعني النظر في تاريخ الخطابة والتربية، كما كانت تُقاس مراحل الحياة لدى الأطفال اليونان بمراحل دراسية محددة.

أما الرومان فقد كانوا يحتفلون بالأطفال ويحبون المناسبات المتعلقة بهم، ويعملون بطرائق جوهرية للمحافظة على الأيديولوجيا الرومانية. وصحيح أن الأدب اليوناني غني بقصص التضحية العائلية، إلا أن روما هي التي ربطت الطفل بشكل واضح بالسياسة المدنية.

وأدب الأطفال في هذه العصور كان يتجاوز قوائم النصوص التي يقرؤها الأطفال، أو مجموعة الخرافات والمقتطفات والتوجيهات التي يمكن أن نستخلصه منها، فقد تركز على تكوين الطفل بصفته مواطناً. كما كان العبيد حاضرين في جميع نواحي الحياة اليونانية والرومانية، وكان معظم المعلمين والمربيات منهم، وإيسوب أبو القصص الخرافية كان عبداً أيضاً.

إذاً يمكن القول إنه في العصور الكلاسيكية القديمة عموماً كان يشكل كل من القراءة والكتابة والرقيق سياقاً ضرورياً لفهم أدب الأطفال.

في العصور الوسطى

شهدت العصور الوسطى استمراراً للإيسوبيات، على أن أنواعاً أدبية جديدة دخلت إلى المدرسة والمنزل، وبرزت بنى اجتماعية متميزة طورت أشكالاً من أدب الأطفال مختلفة عن تلك الموروثة من العصور الكلاسيكية. وكان أطفال العصور الوسطى يقرؤون ويكتبون ويصلون ويلعبون، كما أن دراسة أدب الأطفال في القرون الوسطى لم تكن تروي لنا شيئاً من حياتهم فحسب، بل تلقي الضوء أيضاً على مخيلة المجتمع في ذلك الوقت.

وممن عمل في كتب الأطفال في العصور الوسطى البيشوب الفريك الذي ألف كتاب "حلقة دراسية" الذي استخدمت فيه حالات مأخوذة من الحياة اليومية لتحسين مستوى التلاميذ باللاتينية، وبعد جيل من تأليفه الكتاب أضاف إليه أحد تلامذته شرحاً بالإنكليزية القديمة، ما شكل تعليماً ازدواجي اللغة، وربط اللغة المحكية بالحياة اليومية.

وبدورهم كان الآباء والمعلمون يؤلفون مجموعات من النصائح، وأشكالاً من الكتابات التربوية سواء باللاتينية أو اللغات المحلية، واستمر ذلك خمسمئة عام، وفي هذا الجانب يُعتبر كتاب "الاسطرلاب" أفضل إنتاج لهذا التقليد التربوي كتبه جوفري شوسر لابنه.

وفي أواخر العصور الوسطى لم يكن يمكن فصل أدب الأطفال عن المثل الجديدة في الحياة العائلية والنجاح التجاري، بالإضافة إلى صعود الكتابة باللغة العامية وتجارة الكتب، لكن مع أواخر القرن الخامس عشر أدى ظهور الطباعة إلى قيام تغير جذري في صناعة الكتب ونشرها، حيث أصبح أدب الأطفال سلعة تجارية.

جون لوك وداروين

قدم جون لوك نظرية تربوية مبنية على أساس فلسفي في كتابه "مقالة حول الفهم البشري 1690"، وبشكل أدق "بعض الأفكار حول التربية 1692"، وقد حصلت نظريته على أثر في التنشئة والتربية أكثر مما حصل لأي من المربين الآخرين خلال الثلاثمائة سنة السابقة، وقد حظي لوك بالاحترام بصفته أباً للتربية (نظراً وممارسة)، وعلى مدى القرن الثامن عشر وحتى جانب كبير من القرن التاسع عشر اتبعت كتب الأطفال فلسفة لوك وذوقه.

والحقيقة أن تأثير لوك في أدب الأطفال في القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، لا يكمن فقط في مثله الأعلى حول الحياة المتعلمة، بل في القناعة بأن الطبع والسيطرة على الذات والعمل المجد، يمكن تعلمه أيضاً، وهو يكمن أيضاً في تركيزه على جزئيات الخبرة الحسية، وانبهاره بالألعاب وابتكاره لغة تصويرية لشرح ما يملأ العقل.

أما داروين فتكمن أهميته لتاريخ أدب الأطفال ليس فقط في المثل العليا للرواية أو الإمبراطورية أو التربية أو النمو الإنساني، بل أيضاً في طريقته لرواية سيرة حياته وذكريات طفولته وعلاقاته المعقدة والقوية وشديدة التأثير بأجداده.

ومكانة داروين في هذا التاريخ تشبه مكانة لوك من حيث أن كليهما قدم إطاراً لشرح النمو، وكلاهما استخدم مجازات لفهم الحياة الاجتماعية، وكلاهما مثلا أنموذجاً فكرياً في عصره.

في القرن العشرين

قيل الكثير عن الحركات الاجتماعية والفنية في العقد الأول من القرن العشرين وأثرها في أدب الأطفال، فقد لاحظ النقاد تفجر المؤلفين والروايات والمسرحيات والقصائد، كما أن العديد من الأعمال المألوفة لدينا من أدب الأطفال كُتبت في تلك الفترة، كذلك كتب الأطفال الحديثة أخذت شكلها الذي نعرفه في هذه الفترة أيضاً.

أما ثقافة الجوائز فقد وجهت طباعة الكتب خلال ما يزيد عن قرن، وساعدت على تكوين معايير لكتب الأطفال في أمريكا منذ عشرينيات القرن العشرين، وإن هذه الجوائز بالإضافة إلى مجموعة كبيرة من مؤشرات التميز والتأييد والثناء، وجهت أدب الأطفال في أمريكا الحديثة، وأصبح الفوز بالجوائز معياراً داخلياً وخارجياً للتميز الأدبي، وما برز خلال القرن العشرين في أمريكا ليس إلا أدباً للفائزين.

----

الكتاب: أدب الأطفال من إيسوب إلى هاري بوتر

الكاتب: سيث ليرر

ترجمة: د. ملكة أبيض

الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب