يؤكد الدكتور عفيف بهنسي في كتابه "الهوية الثقافية ما بين العالمية والعولمة" أن الحوار هو الذي يحقق في بعده العريض العالم الذي ينتجه البشر كي يعيشوا فيه، فثمة نزوع فطري لديهم للتبادل، وليس العرب طرفاً خارج هذا العالم، فهم يتمثلون بذاتية ثقافية تاريخية قادرة على الاستمرار في الحوار منذ بداية التاريخ.

لعل من أهم أسئلة علماء الأنثروبولوجيا، السؤال التالي: كيف تترابط الشعوب مع بعضها في العالم وكيف تتحاور؟ ويبدأ الجواب بنقطة هامة، لكي نتحاور يجب أن نعرف من نحن، ثم يجب أن نعرف من هو الآخر. ويصدر هذا الجواب عن القناعة بأننا لن نكون بشراً ما لم نحقق حواراً ومعاشرة مع الآخر بدءاً من المجتمع الصغير إلى المجتمع العالمي الكبير، هذا الحوار هو الذي يحقق في بعده العريض العالم الذي ينتجه البشر لكي يعيشوا فيه، إذ لا وجود للعالم قبل البشر، فهو بيئة التفاعل البشري، ويحدد حجمه وأهميته حجم هذا التفاعل البشري. وليست تركيبة هذا العالم بسيطة، بل هي معقدة متشابكة متطورة.

وتبقى المسألة الأساس في علم الأنثروبولوجيا هي مسألة تنوع الذاتيات، وطريقة تفاعلها مع بعضها، هذا التنوع الذي نراه في تعدديات اللغات في الذات الثقافية الواحدة، وفي تباين التقاليد والعادات والعقائد والأهداف. وهذا ما يجعل مهمة العالم الأنثروبولوجي صعبة جداً وبخاصة عند تعريفه لمعنى العالم بوصفه تحولاً مستمراً، فالحوار بين هذه الثقافات في العالم تبرره الأواصر الثقافية بين البشر. ولأن جوهر الثقافة كامن في التحول، فالتباين بين الثقافات نتيجة حتمية، دون أن يعني هذا التباين فقدان اللغة الإنسانية المشتركة التي تحقق الحوار. إن التحول الثقافي والتقدم المعرفي يجري بين البشر من الداخل، لذلك يجب علينا أن نبحث عن هذا التحول في داخل الآخر، ضمن نزعة تبادلية بين الناس.

يعتبر د. بهنسي الحوار الثقافي هو الذي يعيد العلاقات البشرية إلى إنسانيتها كما يعيد الحضارات إلى أهدافها، وهو الطريق لأي حوار سياسي واقتصادي، أما الوجه الغير حضاري فيمثل بالاستيلاء والهيمنة والتدمير تحت عنوان التقدم.

يبين د. بهنسي أن ثمة حواراً معرفياً بين الشرق والغرب بدأه الرحالة والجغرافيون والمكتشفون من الطرفين، اتجاه استشراق واتجاه التمغرب، ولكن هدفهما واحد وهو تحقيق التعارف الذي يحفف من حدة الصراع، كما أن أبواب الشرق لم تكن مغلقة في يوم من الأيام أمام الباحثين عن ثقافته وفنونه. وقد بدأ المتنورون من العرب بالحوار مع الغرب منذ بداية القرن التاسع عشر منهم رفاعة الطهطاوي الذي لخص الثقافة والحضارة الأوروبية مبيناً أن الشرق والغرب التقيا في عقلهما وقلبهما ولم يجحد للشرق سبقه في الارتقاء، وأعقبته حركة إصلاح أخذت الطابع التوفيقي بين السلفية والحداثة وكان من أعلامها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبدو وعبد الرحمن الكواكبي. ولقد دعت هذه الحركة إلى معاصرة الحضارة الغربية وذلك بقبولها التعايش مع الحفاظ على الأصول. ولايزال الجدل مستمراً بين الأصالة والحداثة والمعاصرة.

يضم الكتاب فصولاً عدة تحدث فيها الكاتب عن إشكالية مفهوم العالم والعالمية والحوار عبر التاريخ الحضاري وغياب الحوار الحضاري وظهور نظرية الصراع. وفي فصله الثاني قام بنقد نظرية الصراع وجدلية العولمة وإشكالية الدول العربية والنظام العالمي الجديد، كما تكلم عن العالمية والعولمة وعن العالمية في الفن والثقافة وعن إشكالية البحث عن الأصالة في ظل التغريب، وعن حداثة الغرب وحداثة الشرق والحوار بينهما ومصير الحداثة. وفي الفصل الخامس تناول د. بهنسي مفهوم الحداثة والمعاصرة والثقافة التقنية والثقافة الإنسانية ومعاصرة الحداثة والهوية الثقافية والمعاصرة. أما الفصل السادس فتناول موقف الفلاسفة من الحداثة والإبداع البعدي بين الحداثة والحداثة البعدية والعلاقة بين الحداثة البعدية والنظام العالمي الجديد، بالإضافة إلى الحداثة ومسألة العالمية، كما بحث عن الهوية بالدعوة إلى تأصيل الإبداع والفن للحفاظ على الهوية المعمارية العربية بدمج التقنيات الحديثة والتقاليد المعمارية من الماضي إلى المستقبل.

----

الكتاب: الهوية الثقافية بين العالمية والعولمة

الكاتب: الدكتور عفيف البهنسي.

الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب، 2009