على ما يبدو من التاريخ الميثولوجي للشعوب، فإنّ البشر، ومنذُ أن وعوا ذاتهم، كان أوّل ما فكروا فيه، هو إيجاد إله يؤمنون بقدراته، ويأمنون به من بطش أو خوف. وكان عليهم منذ ذلك الوقت أن يُقدّموا له الأضاحي ويقيمون له النصب والتماثيل والصروح الفخمة.

ربما يكون الإله "آن" إله السماء عند السومريين، أقدم الآلهة، باعتبار أن الشعب السومري قد يكون من أقدم الشعوب البشرية، إن لم يكن أقدمها على الإطلاق، وربما تكون – من هنا –الآلهة واحدة أو تشبه التوحيدية قبل أن تتعدد، ويكون لديها شواغل مُحددة لنفع بني البشر، شواغل أقرب إلى اختصاصات في الحب والحرب والضوء والشمس والإخصاب، وغير ذلك من مسائل تهم بني البشر أو قد تكون مصدر خوفهم.

مناسبة هذا التمهيد، هو الكتاب الممتع الصادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب- وزارة الثقافة بعنوان "معجم الآلهة والكائنات الأسطورية في الشرق الأدنى القديم" للدكتور عيد مرعي. تلك الحقبة التي شهدت إرهاصات توحيد مرتين رغم تعدد الآلهة وكثرتها، الأولى عندما دعا فرعون مصر أخناتون لعبادة إلهٍ واحد؛ هو الإله "أمون" إله الشمس، والثانية الدعوة التي قام بها كاهن فارسي عاش ما بين (660 – 583 ق.م) وأقصد زرادشت الذي دعا إلى عبادة إله واحد هو "أهورامزدا" إله الخير والمحبة والنور والسماء.

في هذا المعجم؛ يُعرّف الدكتور مرعي بـ (332) إلهاً وكائناً أسطورياً وحاكماً ملكاً وصل إلى مرتبة الآلهة، وذلك في المنطقة التي تُسمى (الشرق الأدنى القديم)، وهي التي تمتد من الهضبة الإيرانية في الشرق إلى شمال أفريقيا في الغرب، ومن هضبة الأناضول في الشمال إلى بحر العرب والمحيط الهندي في الجنوب، أي الأدنى إلى أوروبا، وذلك مُقابل مصطلح الشرق الأقصى الذي يشمل الهند والصين واليابان وجنوب شرق آسيا؛ حيث يرى الباحث تميّز بقاع الشرق الأدنى القديم، ولا سيما مناطق بلاد الرافدين وسورية ووادي النيل بأنها المناطق الأقدم في تاريخ البشرية التي عرف الإنسان فيها الاستقرار والإقامة الدائمة بعد اكتشاف الزراعة في الألف العاشر قبل الميلاد، حيث نشأت المستوطنات الزراعية الأولى في أودية أنهار: دجلة، الفرات، النيل، العاصي، الخابور، الأردن، والليطاني، والتي كانت أساساً لنشوء الممالك والمدن، ومن ثمّ الإمبراطوريات. وكانت الآلهة حينها في كل حضارة مُرتبة في مجموعات ولها تسلسلها الهرمي الذي يختلف باختلاف الزمن والتطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فعند السومريين كان "آن" إله السماء سيّد الآلهة السومرية في البداية، ثم أصبح "إنليل" سيدها مع صعود مدينته "نيبور" إلى مرتبة العاصمة الدينية لكل بلاد سومر، وأصبح "مردوك" إله مدينة بابل عاصمة المملكة البابلية الأولى، وكذلك الحال مع الإله "أشور"، وفي أوغاريت كان الإله "إيل" في البداية سيّد آلهة تلك المدينة، ثم حلّ محله الإله "بعل" سيّد الخصوبة والأمطار. ووضع الآراميون في أعلى السلم الإلهي "هدد أو حدد". وهكذا فأسماء الآلهة كثيرة، ولكن جوهرها واحد، وألقابها متنوعة تُعبّر عن وظائفها المتعددة.

وبتقدير د. مرعي؛ فقد حافظ الشرق على هويته الحضارية، ولا سيما في المجال اللغوي والديني، فاللغة الآرامية بلهجاتها المُتعددة، وأبرزها السريانية والنبطية والتدمرية، سادت في مُعظم مناطق الشرق، وبقي الإله "هدد" الآرامي الإله الأول بين المعبودات الدينية مع إطلاق الرومان عليه اسم "جوبيتر الدمشقي" حيث قارنوه بإلههم الأكبر جوبيتر، كما قارنه الإغريق قبلهم بكبير آلهتهم زيوس، وانتقلت عبادة "ميثرا الفارسي، وإيزيس وأوزريس" المصريين إلى عاصمة الإمبراطورية روما، حيث بُنيت معابد لها هناك، وكسبوا الكثير من الأتباع ودخلوا في منافسة مع المسيحية التي كانت قد بدأت في الانتشار في الإمبراطورية الرومانية.

ما يُلفت إليه الباحث في هذا العمل الضخم، هو أهميّة دور المرأة في تلك الأزمنة الغابرة، لا سيما دورها في المعتقدات والتصورات الدينية لسكان الشرق الأدنى القديم، فبرزت إلهات متعددة تُمثل الطبيعة وقواها ومظاهرها المختلفة، ولا سيما في مجال العطاء والتوالد والنمو والخصوبة والأمومة، وعلى الرغم من تعدد أسماء الإلهات في مختلف حضارات الشرق الأدنى القديم، بقيت وظائفها الأساسية مُتشابهة، فمثلاً إنانا عند السومريين تُقابلها عشتار عند الأكاديين والبابليين والآشوريين، وعنات عند الأوغارتيين، وعشتاروت عند الفينيقيين، وإيزيس عند المصريين القدماء، وتانيت عند القرطاجيين، وأناهيتا عند الفارسيين، وشاوشكا عند الحوريين والحثيين، وأفروديت عند الإغريق، وفينوس عند الرومان. ولم يقتصر التشابه أو التطابق عند الآلهة المؤنثة، بل امتدّ في بعض الأحيان ليشمل الآلهة المذكرة، وهو ما يُستنتج منه أنّ هنالك نوعاً من الوحدة الحضارية في مجال المُعتقدات الدينية تُعبّر عن نفسها بالأسماء المُتعددة للآلهة وبالطقوس والعبادات المُتقاربة التي تؤكد أن الإنسان في الشرق القديم عبّر عن أفكاره الدينية بوسائل متشابهة ليس فيها أي أثر للحقد أو التعصّب أو التطرف الديني، يبرز ذلك بشكلٍ واضح في انتقال عبادة الكثير من الآلهة بأسمائها الأصلية من أماكن عبادتها الأولى إلى مناطق أخرى حيث حظيت بالعناية والتكريم، كما هو الحال في انتقال عبادة بعل وعنات وحورون وغيرها من الآلهة السورية إلى وادي النيل، وكذلك انتقال عبادة أدونيس وعشتاروت من سورية إلى العالم الإغريقي، كما انتقلت عبادة آلهة مصرية وفارسية "كميثرا وزرادشت" إلى بلاد الإغريق والعالم الروماني. فالتسامح كان سيّد الموقف ولا يوجد أي حديث عن صراعات دينية.

في هذا الكتاب الشائق؛ سيُعرفنا د. عيد مرعي على آلهة جميلة لا تزال ملامحها باقية في الكثير من الميثولوجيا السورية إلى اليوم، وحتى مشابهات لها من قصص وأحداث في مختلف الروايات الدينية التوحيدية، قصص الآلهة ونزاعاتها وحكايا الطوفان الكثيرة، والآلهة التي تولد من أمهاتٍ عذراى، وكذلك الآلهة التي تموت في نهاية المواسم لتقوم في بداية مواسم جديدة، إنها أدونيس، وتموز، وإنانا، وعشتار، وبعل. الأخير الذي كانت رسالته ذات حين من أرض سورية العتيقة التي وجدت منحوتة على صخرة منذ 5000 سنة ق.م:

"أبعد الحرب عن الأرض،

واقضِ على المنازعات في البلاد،

ودع السلام يتسلسل إلى باطن الأرض

ودع الصداقة تنمو بين الحقول".

----

الكتاب: الآلهة والكائنات الأسطورية في الشرق الأدنى القديم

الكاتب: د. عيد مرعي

الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق