نشأ مفهوم الثقافة وازدهر بوصفه نقداً لمجتمع الطبقة المتوسطة وليس بوصفه حليفاً له، ولقد كانت الثقافة تتناول القيم بدلاً من الأسعار، والقيم المعنوية بدلاً من القيم المادية، وسمو المبادئ بدلاً من الحفاظ على القديم.

تناولت الثقافة أيضاً رعاية القوى البشرية بوصفها غايات بحد ذاتها، وليست من أجل دافع نفعي خسيس. وشكلت هذه القوى وحدة كاملة ومتناغمة، فلم تكن مجرد مجموعة من الأدوات المتخصصة، فكانت الثقافة تدل على هذا المزج المذهل.

كما كانت الثقافة الملجأ المتزعزع الذي وجدت فيه القيم والطاقات التي تستخدمها الرأسمالية الصناعية ملجأ لها، وكانت المكان الذي تأسس فيه ما هو مثير ورمزي، وأخلاقي وأسطوري، وحسي وعاطفي في نظام اجتماعي يتناقص فيه الوقت شيئاً فشيئاً لأي منها. كما احتقرت الثقافة من ذروتها الأرستقراطية أصحاب المتاجر وسماسرة البورصات الذين يتجمهرون في الأراضي التجارية الوعرة.

ما بعد منتصف القرن العشرين

في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين كانت الثقافة تعني أفلام السينما والصور والأزياء ونمط الحياة، والتسويق والإعلان ووسائل الإعلام. وكانت الثقافة التي أخذت معنى القيمة والرمز واللغة والفن والتقاليد والهوية بمنزلة الهواء الجديد الذي تتنفسه الحركات الاجتماعية كالنسوية وقوة السود، وكانت إلى جانب المعارضة وليس إلى جانب الحل المتناغم، كما كانت بمنزلة دم الحياة في عروق فناني ونقاد الطبقة العاملة والذين كانوا للمرة الأولى يحاصرون معاقل الثقافة العليا والتعليم العالي.

وفي هذه الفترة شبّ في الشارع نزاع حول استخدامات المعرفة، بين أولئك الذين يريدون تحويل المعرفة إلى أدوات عسكرية وتكنولوجية وتقنيات تستخدمها الرقابة الإدارية، وأولئك الذين رأوا فيها فرصة للتحرر السياسي، وأصبحت الجامعات موطن الثقافة التقليدية وقلاع البحث النزيه، ومسرحاً للثقافة بوصفها نضالاً سياسياً، كما كان مجتمع الطبقة المتوسطة متهوراً بما يكفي لإقامة مؤسسات لا يستطيع فيها الصغار والأذكياء وأصحاب الضمائر الحية أخلاقياً أن يفعلوا شيئاً سوى قراءة الكتب وتبادل الأفكار لثلاث أو أربع سنوات.

ولم تمنع الحركة الطلابية التي ظهرت في أواخر الستينيات التعليم العالي من أن يصبح مقفلاً للأبد في أعماق بنى العنف العسكري والاستغلال الصناعي، لكن هذه الحركة الطلابية شكلت تحدياً للطريقة التي كانت فيها العلوم الإنسانية متواطئة في كل هذا، وإحدى ثمار هذا التحدي هي نظرية الثقافة.

وفي السبعينيات ومع ظهور ما يسمى بالشيوعية الأوروبية، فضلت الأحزاب الشيوعية حركة الإصلاح على النزعة الثورية، وحققت الحركة النسوية بعض الإنجازات البارزة، وعانت بعض الصدود، وغيرت الكثير من المناخ الثقافي في الغرب إلى حد كبير. كما شهدت السنوات الأولى من السبعينيات الدلائل الأولى لثقافة ما بعد الحداثة، التي استطاعت في نهاية المطاف تولي زمام الأمور.

وقد استمرت الأيام الذهبية لنظرية الثقافة إلى حوالي 1980، ومن ثم انقطعت نظرية الثقافة عن لحظة نشوئها، إلا أنها حاولت بطريقتها الحفاظ على تلك اللحظة دافئة، وشأنها شأن الحرب أصبحت استمراراً للسياسة في وسائل أخرى.

لقد كانت الثقافة الكلمة التي لخصت كلمات أخرى كالسرور والرغبة والفن واللغة ووسائل الإعلام والجسد والجندر والعرق. والثقافة بالمعنى الذي ضم بيل وايمان والوجبات السريعة وديبوسي ودوستويفسكي هي ما كانت الماركسية تفتقده على ما يبدو، وهذا هو أحد الأسباب التي جعلت الحوار مع الماركسية يبرز بوجه عام في تلك التضاريس. كما كانت الثقافة وسيلة لينأى اليسار الإنساني والمتحضر بنفسه عن التحفظ الشديد الموجود في الاشتراكية القائمة سابقاً. وليس من المستغرب أن نظرية الثقافة هي التي تولت القضية مع الماركسية طوال السنوات المضطربة.

النظرية الثقافية والمجتمع

كانت العلوم الإنسانية أو الثقافة أحد الأماكن التي تم فيها تسجيل أزمة الحداثة ككل على نحو أكثر حساسية، فقد كانت الثقافة تدور حول الكياسة والمجتمع والإبداع والقيم الروحية والصفات الأخلاقية ونسيج التجربة الحية، وكلها كانت تحت حصار الرأسمالية الصناعية عديمة الروح، حيث بدا أن العلم والفلسفة وعلم الاجتماع قد استسلمت لهذا النظام الهمجي. ومن الناحية الدينية فقد بدت الثقافة كأنها المنتدى الوحيد الذي لا يزال يثير المرء فيه تساؤلات حول الغايات والقيم الجوهرية، في ظل مجتمع غير صبور مع هذه المفاهيم، وإذا كانت الثقافة انتقادية، فإن هذا يرجع ربما إلى عدم أهميتها المتزايدة.

ولطالما كانت الثقافة مجرد مكان للمفكر، وهو شخص احتفظ ببعض الهالة الروحية الجليلة، فلقد كان المفكرون مثل الثقافة داخل المجتمع وخارجه في نفس الوقت، وكانت لديهم السلطة وليس القوة، فكانوا رجال الدين العلمانيين في العصر الحديث، لذلك كان ثمة سبب أكثر إيجابية للمناشدة المتزايدة للثقافة عند المفكرين، إذ كانوا بحاجة إلى تجنب الباحث الحذر من جهة والمتخصص المتمرس من جهة أخرى، والثقافة هي الطريقة المثلى لفعل ذلك، فمن ناحية لا يوجد مفهوم أكثر عمومية، وإحدى مواقفها المحرجة في الواقع هي صعوبة معرفة ما أغفلته، ومن ناحية أخرى أصبحت الثقافة على نحو متزايد مجموعة متخصصة من المطاردات، ولم تعد فكرة مجردة فحسب بل صناعة بأكملها تطلبت بعض التحقيقات التحليلية المكثفة، فإذا استطاعت الثقافة التعبير عن نوعية الحياة الاجتماعية ككل، فيمكنها أيضاً أن تخلق تفسيرات مفصلة عن أنماط الشعر لدى الطبقة العاملة أو استراتيجيات الحركة التعبيرية، ولقد جمعت بين النطاق الواسع والخصوصية، إذ كان لديها النسيج المفتوح الموجود في المفهوم الاجتماعي، ولديها أيضاً تقارب الآليات الموجودة في المفهوم الجمالي، ولديها جاذبية طبيعية عند المفكرين ليس أقلها الآن بسبب أنها لم تعد تثير بعض التساؤلات التي تهمها من داخل السياسة والاقتصاد وعلم الاجتماع والفلسفة التي أصبحت منتقاة بازدياد، وبناءً عليه أصبح المفكر المنظّر الثقافي، وتُركت الثقافة تحمل الرضيع ربما لأن أولئك الموجودين حولها لاذوا بالفرار.

إنجازات وعيوب

تمكنت النظرية الثقافية من أن تحررنا من فكرة أن ثمة طريقة صحيحة واحدة لتفسير العمل الفني، كذلك أقنعتننا أن ثمة أشياء كثيرة تشارك في صنع العمل الفني إلى جانب المؤلف، كما كان المكسب الأكثر أهمية للنظرية الثقافية والأكثر إثارة للجدل هو الرابط بين الثقافة والسلطة، ولقد أدت الثقافة دوراً بوصفها تذكراً ثميناً لليوتوبيا، ولما لم يعد الفن متمماً لحضارة تنظر إلى القيمة بأنها شيء يطرحه السوق، كانت قادرة على تحويل عدم الحاجة هذه إلى نوع من الفضيلة.

وفي المقابل كانت نظرية الثقافة تعِد بالتعامل مع بعض المشكلات الأساسية لكنها تخفق في تسليمها، فكانت مخجلة فيما يتعلق بالأخلاق والميتافيزيقيا، ومحرجة فيما يتعلق بالحب وعلم الأحياء والدين والثورة، وصامتة فيما يتعلق بالشر، ومتحفظة فيما يتعلق بالموت والمعاناة، وعقائدية حيال جوهر الأشياء والمسلمات والأسس، وسطحية بشأن الحقيقة والموضوعية وعدم التحيز.

----

الكتاب: ما بعد النظرية

الكاتب: تيري إيغلتون

ترجمة د. باسل المسالمة

الناشر: دار التكوين، دمشق