صحيحٌ أن لوكليزيو، ليس فرنسياً خالصاً، لكنه وبحكم مولده في نيس 1940، من أبٍ بريطاني وأم فرنسية، ربما من هنا كان مولعاً، كمعظم الكتّاب الفرنسيين، المشغوفين بالكتابة عن أحداث وشخصيات من أمكنة بعيدة، وإن كانت تشدُّ بخيوط إلى أحداثٍ وشخصياتٍ تقع في الأراضي الفرنسية لاحقاً.

يكاد هذا "الشغف" أن يكون ثيمة فرنسية. والمفارقة أن الكتّاب غير الفرنسيين المقيمين في فرنسا، ظلوا يكتبون أحداثاً من الذاكرة، متجاهلين –غالباً- مكان إقامتهم، فيما الفرنسيون، حتى وإن لم يغادروا فرنسا، فغالباً ما يرحل بهم الخيال للكتابة عن أحداثٍ وأمكنةٍ بعيدة وراء البحار. ‏

جان ماري غوستاف لوكليزيو، وبحكم عمل والده كطبيب في المستعمرات الفرنسية، وهو كجندي في البداية في مستعمرات فرنسا وراء البحار، يؤكد: "إن كائناً ما انسلَّ إلى داخلي، من أنا؟ وماذا أكون أنا؟". هذا السؤال الذي يطرحه في معظم أعماله في كلِّ ما كتب، في بحثه عن الصوت الآخر، سعياً إلى رفض أساطير العالم الغربي، والهارب من شروطها، مقتحماً العالم الهامشي للمجتمع المعاصر، ليكشف عن التعايش ما بين قسوة الحياة ورقة المشاعر، ناقلاً هذا الهامش إلى قلب الحياة.

وفي روايته "سمكة من ذهب"، يترجم أسفاره الطويلة وتطوافه، مستعيراً سيرة "بدوية عربية" هلالية من المغرب، خُطفت ذات يوم بكيسٍ أسود، سُرقت كانتقامٍ على يد خاطفين من قبيلة أخرى، من أجل مشكلة ماء، ثم بيعت، لتفتح بعدها دروب المجهول باتجاه المستقبل. ‏

لوكليزيو المتزوج من امرأةٍ ذات أصلٍ صحراوي مغربي، يستعير في هذه الرواية شخصية ليلى المغربية، المخطوفة بعمر السّت سنوات، النقية جداً، لكنها القاسية جداً أيضاً، يقف معها من تخوم الرحلة الأخيرة، ليسرد -خطفاً - رحلتها الطويلة من (الملاحة) في المغرب، إلى الولايات المتحدة، مروراً بفرنسا، حتى موعد الرحلة التالية، من المكان ذاته، بعد أن كشفت لغزاً، كان سبباً في مأساتها، والذي لبس حياتها كُلّها قبل أن تبدأ درب الحب، مبرهنةً على حريتها التي سلكتها رغم كل الحواجز في رحلتها الطويلة الأولى. ‏

فقد جعل ليلى تسردُ بطريقةٍ تشبه سرد جدتها الأولى، الساردة شهرزاد، لكن هنا ليس لها صباح لتسكت عن الكلام المُباح. كانت تسردُ طولَ الوقت، كأنها لا تنام، إذ تتناسل الحكايا من المحطات، الأرصفة، الأسطحة، والأقبية، حكايا وإن تجمعت في فرنسا، فإن لها جذورها خلف البحار، مسلطاً الضوء على قضية المهاجرين في أحياء الفقر، ومؤكداً أن على الدول الاستعمارية أن تدفعَ ضريبةً على "استثمارها الاستعماري القديم"، وهي التي استخدمت آباء هؤلاء المهاجرين في حروبها. في الأمس هناك في المغرب والسنغال وهاييتي، كانت تستخدمهم كمقاتلين لغزو البلاد التي أصبحت فيما بعد "مُستعمرات"، وتستخدم نساءهم في المزارع وكترفيه لجنودها، لا تزال - على سبيل المثال- الحكومة الفرنسية تمارس استعمارها على أبناء هؤلاء، أو من تسميتهم بـ"المهاجرين"، وهم مهاجرون في عالم لا يكترث بهم، هامشيون تسرق أرواحهم وثقافتهم. ‏

وبالنسبة إلى الفرنسيين كل السود يتشابهون، إذ لم يتماه المهاجرون مع مستعمريهم السابقين، وليس ثمة أوطان لهم سوى قميص وصندل مقطوع، المهاجر يعيش هناك، لكن دائماً عقله في الجنوب، وإن كان هذا الجنوب لا يقلُّ قسوةً عليه من الشمال. وفي الشمال هم ليسوا أكثر مما سرقه الاستعمار ووضعه في متاحفه، هم الذين ليس لديهم نقود، ولا مستقبل، يدخنون سجائر الحشيش في مداخل الكراجات، وفي السماء الحمراء وهدير المدينة، رغم ذلك كانوا يملكون كل هذا الذي لا يملكه أحد. ‏

لنسمع "حكيم" صديق ليلى السنغالي يشرح لها في متحف الفنون الأفريقية: "انظري يا ليلى، نسخوا وسرقوا كلَّ شيءٍ، سرقوا التماثيل، الأقنعة، سرقوا الأرواح، حبسوها هنا، في هذه الجدران، كما لو أنَّ كلَّ هذا ما هو إلا زينةً رخيصة. انظري إلى الأقنعة، إنها تشبهنا، إنها سجينة، ولا تستطيع أن تعبّر، إنها مقتلعة، غير أنها في الوقت ذاته أصل كلّ شيءٍ موجود في هذا العالم". ‏

هذه الساردة التي تسرد بضمير الأنا: "كما تتخيلون، أو يمكن أن أروي لكم ما جرى". وحيث كلّ شيءٍ له طعم الفقر والتشرد، المدفوعة بأصلٍ بدوي باحثٍ عن الحرية، لكن رغم كل هذه الفضاءات التي أمامها، الشوارع التي تبدو بلا نهاية، الأوتوسترادات التي تضمحل في تدفق السيارات، غير أنّ هذا العالم ضيق، ورغم أن معظم الشخصيات ترحل في عالمٍ من التيه والتطواف، الذي يؤسس وجود الشخصية ويبرهن على حريتها، رغم ذلك؛ العالمُ ضيقٌ، وحين يجتذب الخيط الصحيح يجيءُ الكلُّ، أي أن هؤلاء المشردين يجمعهم شيءٌ ما، مربوطون ببعضهم، ويجلبون كلَّ الآخرين". ‏

مثل سمكة تصعد سيلاً، تعيش ليلى منسلةً بين الناس، تركبُ الباص دون أنْ تقصدَ جهةً معينة، إلى أن تصلَ نهاية الخط، كانت تريد أن ترى أكبر قدرٍ ممكن من الناس والأبنية، والمحلات، والساحات، تخدم، تسرق، تقيم علاقات، وتتعرف على مهاجرين، الأمر الذي وسّع دائرة الحكايا والسرد لديها، لكنه سرد ـ رغم شاعرية الوصف أحياناً ـ يأتي كحامض في الحلق، إذ منذ كانت طفلة في (الملاحة ودوار تبريكة) إلى ناس القاع في باريس، وأقبية شارع (بافلو)، والعبور بالقوارب، وقطع (وادي أرن) بين إسبانيا وفرنسا سيراً على الأقدام، والنظر مع الآخرين إلى خط الأفق بلا توقف، كما لو أن هناك شيئاً ما سيغيّر حياتهم. حكايا تسردها كتحقيقاتٍ صحفية، يخطر لها ومنذ كانت طفلة لم يتوقف الناس عن اعتبارها ابنتهم، لكنهم سرعان ما يوقعونها في شراكهم، وجوه من جميع الأنواع، تماماً كما الكلاب التي تشاهدها في الشوارع، أو مع أصحابها، سمينة لمسنين و شباب، أو حادة شاحبة بلون الأرض، بيضاء وداكنة. عالمٌ فيه الرجال يركضون كالحشرات المجنونة، الناس يشترون ويبيعون، ويستثمرون. لكن لم يكن هناك مكان هادىء في هذا العالم، حين نعثر على مكانٍ منعزل، مكان وعر، كهف، ساحة صغيرة منسية، يكون هناك دائماً إشارة فاحشة، شخص خسيس، أو متلصص، وهذا ما كان يقتلها. ‏

الانسلال بين الناس، الذي يأتي كالملامسة إذا ولد الحكايا، يقول لوكليزيو: "كانت (سمكة من ذهب) حكاية لا ينبغي لها أن تستغرق أكثر من خمس عشرة صفحة، غير أنها أصبحت رواية بالرغم عني، لا أتكلم تماماً عن الشخصيات التي أفلتت، ولكن عن الحكاية نفسها، عن النص الذي تضخم فجأة. حيث للخيال جانب يشبه الغرغرينا". ‏

اسم، وجواز سفر، وحرية، وأن تذهب إلى أيّ مكان. صحيحٌ أن هذا لم يكن يحصل دائماً، غير أن هذه هي الرواية، إذ لا يوجد لي مكانٌ واحد في هذا العالم - تسرد ليلى - وأينما ذهبت سيقال لي: إني لست في بلدي، وإنه ينبغي أن أفكّر في الرحيل، وهي التي ترى في نفسها انسانة كونية، تجيد الفرنسية، والإسبانية، والإنكليزية، وتجيد الموسيقا والغناء، أشياؤها: حقيبة سوداء، تحوي نظارة سوداء، زرقاء، وبيريه غرزت فيه قرط الهلال الأخير، الإشارة الوحيدة التي تدل على قبيلتها جنوب البحر، مع ذلك كانت الحواجز والأبواب تزيد في تصميمها على الرحيل، وثمة كتابٌ عزيز على قلبها كان قد أهداها إياه صديق كاميروني هو كتاب لفانون "معذبو الأرض". ‏

كان لوكليزيو حريصاً على تطور لغة الوصف لدى الساردة، مع تراكم التجربة، والمغامرات، والترحال، والقراءات الجديدة، من خطاب الخادمة الصغيرة في بيت "لالا أسمى" في دوار تبريكة، إلى خطاب المراهقة الناضجة، صاحبة التجارب الكثيرة، والطفولة المساءة معاملتها في الولايات المتحدة الأمريكية، تصف دوار تبريكة: "حين يخف الضوء، كنتُ أعودُ إلى الحي، فيما كانت العبّارة تنزلق على الماء الباهت لمصبِّ النهر، كان رأسي يضجُّ بالكلمات التي قرأتها، بالشخصيات والمغامرات التي عشتها، أمشي في شوارع مدينة الصفيح، كما لو أني قادمة من عالم آخر. وفي باريس كانت السماء شاحبة، والشمس واطئة تجري بين الغيوم". إلى أن تتكامل مع الموسيقا والغناء "كنت أعزف، لم أعد أخاف شيئاً، أعرفُ من أنا، لم يعد هناك أهمية لطرف العظم المكسور خلف أذني اليسرى، وللكيس الأسود، والشارع الأبيض، والصرخة المخدوشة لطائر الشؤم". ‏

كان على السنين إذاً أن تعطي الدرس، الهدير المستمر والأصم والخفيض وصوت البحر على الأرض، العربات على السكك، الهدير المستمر للعاصفة الذي يصعد خلف الأفق، مثل تأوه، أو همهمة تأتي من المجهول، صوت الدم الذي في الأوردة، صوت الوحدة في الليل الطويل. ‏

بقي أن نذكر أن لوكليزيو وقع عام 1988 في مواجهة مع الأوساط الصهيونية في فرنسا، التي عدته مشبوهاً على غرار جان جينيه، بعد أن نشر جزءاً من روايته "نجمة تائهة" متناولاً فيها المراحل الأولى لتشكل المخيم الفلسطيني.

----

الكتاب: سمكة من ذهب ‏

تأليف: جان ماري غوستاف لوكليزيو ‏

ترجمة: عماد موعد ‏

الناشر: وزارة الثقافة، سورية ‏