الأيقونة؛ هي خطاب يؤرخ للإنجيل المُقدس، ويروي حكاياته وعِبره بواسطة الريشة واللون اللذين يُشكلان المشهد. بل إنّ البعض يعتبر الأيقونة نفسها، كتاباً مُقدساً، مُصوّراً بالألوان، ساهمت في توضيح تعاليم الكنيسة لعامة الشعب، وخاصة للأميين منهم، وتذكير المتعلمين بأسس العقيدة الدينية ومراميها اللاهوتية.

تحدّث الكثيرون عن "الأيقونة" كملمحٍ دينيٍّ لاهوتي، كما تحدّث الكثيرون أيضاً عن خروجها، أو عدم مكوثها في البوتقة الدينية، وإنما عن كونها ملمحاً جمالياً تأثر بها الكثير من الفنانين التشكيليين، ويبدو أنه لا يزال ثمة الكثير من الخبايا للحديث عن الفن الأيقوني بشقيه الديني والجمالي.

في كتابها "الأيقونة السورية"، ترصد الباحثة إلهام عزيز منشأ الأيقونة وتطورها ودلالاتها الدينية والجمالية، وأشكالها وموادها الخام المكوّنة لها، وصولاً إلى البحث في عوامل اهترائها وتخربها، ومن ثمّ ترميمها. غير أن الأبرز في بحث محفوض الطويل، هو إصرارها على "مرجعية" الأيقونة "السورية" وإن ظهرت لأول مرة تقريباً خلال العهود البيزنطية، غير أنّ صُناعها كانوا دائماً سوريين وعلى الأرض السورية، لا سيما فيما تورده الباحثة عن منشئها التدمري، الذي شكّل الإرهاصات الأولى لفنون الأيقونة. وترى الباحثة أنه لا يُمكن أن تُنسب الأيقونة إلى بيزنطة كما يزعمُ بعضُ الباحثين، بل هي نتاجُ فنٍ ديني ازدهر في أنحاءٍ متفرقة من الإمبراطورية البيزنطية خاصة في سورية ومصر اللتين انبثق منهما الفن الأيقوني معاً أواخر القرن الثالث الميلادي إلى جانب فكرة الرهبانية التي رأت النور في القرن ذاته. فأخذ هذا يزدهر إثر سقوط القسطنطينية، متابعاً تطوره في الكنيسة الأرثوذكسية، ليُشكّل دوراً تعليمياً فعّالاً في شرح مضامين الكتاب المقدس. فرموز الأيقونة وألوانها، تُشكّلُ سرداً حكائياً مفعماً بالميثولوجيا. فالأحمر القاني يوحي بالحياة الدنيا، كلونٍ للدم والنار، فيما البني يُشير إلى التقشف والزهد، والأخضر لون الطبيعة وتجددها، ويُشير إلى التجسيد الإلهي في المسيح، فيما اللون الأزرق يوحي بالمجد والقدرة، أما الأسود فيعني الغياب والموت والجحيم.

ذلك إن الفن المسيحي السوري، لم ينشأ إلا بعد القرن الثالث الميلادي، بعد أن ضعف مبدأ التحريم المسيحي على الفن.. وهو فنٌ شعبي مارسه الفنانون منذ نشوء المسيحية، وأيضاً حتى بعد دخول الإسلام بلاد الشام. فكانت المنحوتة هي المصدر الأصلي لمعنى الأيقونة لا سيما بمضمونها الذي يدل على صورة مقدسة ضمن إطار محدد، وتتعلق بموضوع العبادات بشكل مباشر، وتمثّل الآلهة ضمن ترتيب مُعيّن يُراعى فيه إعطاء مركز اللوحة للإله الرئيس ويليه يميناً ويساراً بقية الآلهة بحسب الأهمية. وكلُّ هذه التقاليد انتقلت بشكلٍ كامل إلى فن رسم الأيقونات المسيحية لاحقاً. وهنا تُشير الباحثة إلى تقاطع الفن المسيحي مع الفن التدمري بكثيرٍ من سماته التي وجدت في الرسومات والمنحوتات التي زينت المعابد القديمة قبل المسيحية لا سيما في (دورا أوربوس) مدفن الأخوة الثلاثة وغيرها. بل إن الكاتبة تحسم رأيها وتعتبر الفن المسيحي السوري المُبكر، قد ولد من رحم الفن التدمري في نسخته البيزنطية، وذلك إذا ما أخذنا التتابع التاريخي لهذين الفنين كأساس الاقتباس ووسائله. ويُضاف إلى ذلك ازدهار تدمر وغناها اللافت الذي تزامن مع مسيحية تعيش أصعب مراحلها خوفاً واضطهاداً وتعمل بسرية ودأب كي تُثبت احترامها في منطقة غارقة في وثنيتها.

ثمة تعريفات مُتباينة كثيرة، حاولت أن تُبيّن ماهية الأيقونة وكنهها، غير أنها تجمع تقريباً على مصدر الكلمة اليوناني، وهي مشتقة من الفعل"eiko" وتعني شابه أو ماثل، غير أن الأيقونة مُصطلح عليه في الكنيسة الشرقية للدلالة على الصور المقدسة، وكانت كُرست الأيقونات في العصر الكلاسيكي (اليوناني، الروماني، البيزنطي) كوسيلة تعليمية دينية لشرح محتوى الفكر السائد فيما يتعلق بالفداء، والخلاص، والرجاء، وقد استمرّ هذا الأمر في الكنيسة الشرقية حتى اليوم.

وكانت تبنت الكنيسة الشرقية فكرة الأيقونة مصوّرةً بحلة إلهية روحانية بعيدة كلَّ البعد عن المفهوم التصويري الديني، فهي لا تصوّر الحضور الإلهي فحسب، بل تحضن أيضاً انعكاس هذا الحضور.

إن سرّ الأيقونة؛ يكمن في استخدام الفنان لعبقريته التي تستوحي الجمال في الفن دون أن تنشغل فيه، وتبرزه حتى يظهر بقدر ما يُثير في النفوس من انفعالات روحية تولد في قلب مشاهدها. وهذا ما يحرص عليه "الأيقوني غرافي" الذي يخرج لوحته في غمرة طقس تعبدي، وكأنه أمام الحضرة الإلهية بمضامينها القدسية، التي تفرض عليه الإيحاء دون التشخيص والتعبير دون التجسيم، وهنا نذكر أنه لا بعد ثالث في فن الأيقونة.

وحتى وصلت الأيقونة على ما هي عليه اليوم، فقد شهدت حروباً ضروسة بين التحريم والتحليل، سواء بين الكنائس المختلفة، أو بين المسيحية وأديان أخرى، زهق فيها عشرات الألوف من الأرواح، وخربت خلالها أديرة وأماكن دينية كثيرة، حتى انتهت بقرارات مجمع نيقية 787م على يد الإمبراطورة إيرين التي أعادت الشرعية للأيقونات، حيث بلغت الأيقونة البيزنطية أوج ازدهارها بعد أن خرجت من عصر الدياميس – الأنفاق السرية، والاضطهاد، وقد أصبحت الدولة البيزنطية دولةً مسيحية، وصار لها مدارس كثيرة.

----

الكتاب: الأيقونة السورية

الكاتب: إلهام عزيز محفوض

الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب