يعتبر مصطلح الانفتاح الدلالي من المصطلحات النقدية الحاملة على النص الادبي بأجناسه المتنوعة قصة أو رواية أو شعر، ولعله حكم قيمة حينما يصر الناقد على استخدامه في الكشف عن المضمر النص بسياقه الإبداعي، بحيث استطاع الناقد الدكتور "عاطف البطرس" أن يجمع ما أراده من مصطلحات نقدية استخدمها ليجد نفسه يرنو نحو العنوان الشيق "الانفتاح الدلالي للنص" في المقاربات بفضاء القصة القصيرة والرواية.

يشير الناقد الدكتور عاطف البطرس إلى أن الممارسة النقدية بين الحكم الفني والقيمة الأخلاقية النقد بالمحصلة النهائية، هو علم القيمة والدراية بما تنطوي عليـه النصوص مـن قـيـم فنيـة، تحـدد أدبيـة الأدب. والنقـد معيـاري بالضرورة، لأن العقل والذائقة اللتين تنتجانه معياريتان، فالعقل لا يقبل إلا ما له قيمة، والعاطفة لا تهتز، إلا لما هو جميل ومثير للبهجة. وأعلى مستوياتها المتعة الجمالية التي تتأتى من الصناعة الفنية، فلا أدب بـلا فـن.

غاية النقد، إصدار الحكم، حتى النقد الوصفي الذي يكتفي بالتوصيف ويبتعد عن إصدار حكم القيمة، يحتوي حتماً أحكام قيمة ولو بشكل غير مباشر، هذا الحكم لا يمكن نظرياً- أن يكون مجرداً موضوعياً، لأننا نقارب أعمالنا بتحيـز مسبق، تمليـه علينا ثقافتنا المشكلة لذائقتنا، وهي بدورها منجز تاريخي معـرفي اجتمـاعي، وفهمنـا للأشياء والإبداعات برمتهـا مـسبوق بتحيـزات التقليد، لأن عملية الفهـم والتذوق هـي عمليـة دائريـة مـن المراجعة المستمرة. نحن أسـرى لثقافتنا، ويجب التحـرر مـن أسـرها باستمرار، بتنوع مصادرها وتعدد مرجعياتها .

ونوه الناقد عاطف البطرس أن النقاد والمفكرين البنيويين حاولوا إبعاد النقـد عن الذاتية المفرطة والاقتراب به من العلم وصياغة قوانين ونظم وتقاليد، يعني ذلك تجريده من الذاتية /الشخصانية. ولما كان الأدب تواصلاً بين روحين، فشلت كل المشاريع الفكرية التي تغيب الذاتية لصالح الموضوعية، وتضع ذاتيـة الأديب، مقابل موضوعية الأدب، متناسية أن العلاقة بين الذات والموضوع قابلة للانزياح وتبادل المواقع. فالأدب ذاتي وموضوعي، خاصة أن مادته اللغة بوصفها إنتاجاً اجتماعياً تتعين بخصائص الأفراد المتحدثين بها.

وبما أن حكم القيمة معياري، فقد تنشأ مشكلة المعيار أو المعايير، هـل هـي ثابتة أو متغيرة، ومن الذي ينتج المعايير والسنن، هـل هـم النقاد أو النصوص الأدبية؟

النص في الوجود والتشكل أسبق من النقد، يأتي النقد لاحقاً، وهذا لا يعني التبعية، هناك حيـز مـن الاستقلال، بعـد تكديس النصوص /عملية الإنتاج الأدبي/ يمكن استنتاج القوانين الداخلية الناظمة لها، ولكن قد يتقدم النقد على النص ويصبح موجهاً لـه. وهنا علينا أن نعترف أن الإنسان /الناقد يحدد السنن ويكتشف القوانين وهي متغيرة بتغير الوقائع والطبائع والبشر، وبالتالي خاضعة لحركة التاريخ والمجتمع ووجهة النظر المهيمنة، النصوص منتجة القوانين والنقاد يقومون بعملية كشفها وتعميمها.

يؤكد الدكتور البطرس أنه لا يجـوز للممارسة النقديـة أن تـسقط مـن تطورهـا التـاريخ والجغرافيا والنسق الثقافي والذائقة السائدة، ولا بـد مـن مـوضـعة الإنتاج الأدبي /النص وموقعتـه ضـمـن تـاريخ جنسه، أي لا بـد مـن مقارنتـه بمـا أنـتـج مـن نصوص محايثة وسابقة، محلياً وعربياً وعالمياً. علينا أن نقـارن هـذا النص/ المنتج بما سبقه من نصوص تنتمي إلى جنسه، فإذا أضاف النص جديداً/ قيمـة مـا علـى أسـاس (يجـب أن نبـدأ مـن حيـث انتهـى الآخرون) والانتماء إلى تاريخ الجنس، والإضافة تكون إليه، يحكم على النص بما أضافه، وهذا يستدعي معرفة تاريخ الجنس وتداخل الأجناس وتطورهـا، وتغير العناصـر المكونة لها، ثـم الإضـافة الشخصية لخصائص الجنس وآخـر مـا اسـتقر عليـه بنــاؤه. فتـاريخ الإبداع هـو الإضافات والتجاوزات /الاختراق الفني/ وليس التماثل وإعادة الإنتاج. أهمية النصوص فيما تضيفه على ما سبقها وليس في تكرارها وإعادة إنتاج اللاحق للسابق منها. هذا هو المعيار الفني، وهو صحيح ولا مفر منه، لكن من الناحية الأخلاقية، لا بد من التريث والتبصر، قبل إصدار الحكم، الذي يشبه حكـم الإعـدام تحديداً على النصوص الوليـدة والكتـاب المبتدئين

ثمة من يقول وهو على حق: الأدب اختراق للمألوف وعندما نتحدث عن الفن/ أدبية النص لا تعني الخلفيات المنتجة له، والناقد لا يهتم بانتماء المؤلف الجغرافي والثقافي، كما أنه ليس معنياً بموقع عمله مـن تجربته، وإنما بالقيمة الفنية لمنجزه النصي.

وفي هذا التناول والحكم الصادر عنه، تجاهل لشروط إنتاج النص وظروف تلقيـه علاقة الخـارج بالداخل /ومفهوم البنية والنسق، فكيـف يمكـن مقارنة بنية متقدمة بكل أنساقها مع بنى متخلفة في أنساقها وبالتالي في بنيتها.

ونوه البطرس مع توسع شبكة الاتصالات، وثورة المعلومات وظهور الإنترنيت (العالم قرية صغيرة) ليس ثمة ما يبرر لكتاب الأطراف والهوامش، عدم الاطلاع على المنجز الإبداعي العالمي وتمثله والاستفادة منه. وفي الواقع العملي فقد قدمت الهوامش والأطراف إنجازات فنية أدبية لا تقل أهمية وقيمـة عـن إنجازات المركز، لا بـل هـنـاك حركـة مـن الهوامش لتحديد مكانة المراكز نفسها.

على الكاتب أن يعي خطـورة عـمـلـه مـن الناحية الفنية، فهو ليس معزولاً عن المنجز العالمي، وتخلف نسقه لا يبرر تقصيره الفني. ومع هذا فمن الظلم المقارنة بين نمطين معرفيين، وبين مكونات ثقافية متباينة وبين أنساق مختلفة على ما بينهـا مـن همـوم ومشاغل مشتركة، وحدة المصير الإنساني، والارتقاء الفني بالذائقة العامة للمتلقين (المحلي والكوني). لا يجـوز بحجة القيمة الأخلاقية، التساهل بالقيمة الفنية، فالأدب شكل/ وصنعة ومهارة وتقانة وخبرة وتجربة، وعلى الكاتب أن يتقن صنعته، وكذلك علـى النـاقـد أن يتسلح بأحـدث منجـزات العلـم والمعرفة وأن يلم بأكثر من حقل معرفة في زمن تتجاور فيـه وتتداخل الحقول. وعلى الناقد ألا يتساهل فيعلي الأخلاقي على الفني لأنه يساهم في إفساد الذوق ويساعد على ترويج الرداءة، عندما يساوي بين الوضيع والرفيع /فنياً/. وفساد الذوق هو العلة الكافية لكل انحطاط. على الناقد محاربة الغوغائية، والابتعاد عن الأحكام المتسرعة التي تفسد الذوق وتشوه الوجـدان. عليـه أن يحـارب الـوعـي الفـني الزائف الذي لا يخدم لا النصوص ولا القراء.

يبقـى الـزمـن هـو القيمة المعيارية العليا، وهـو الناقد الحقيقي للنصوص، والانتشار ليس حكم قيمة على النصوص، فقد يكون سـببـه خـارج الـنـص وبعيـداً عـن فنيتـه، كخروجـه عـن المـألوف الاجتماعي أو الـديني أو السياسي /المحرمات الثلاثة/ مما يسهل انتشاره وتداوله بين القراء، القيم متغيرة، والمعايير ليست ثابتة، على الناقد أن يكون حذراً في إطلاق الأحكـام وأن يلتقط الحـد الفاصـل والـدقيق بين الثابت والمتحول من القيم والمعايير.

----

الكتاب: الانفتاح الدلالي للنص، مقاربات في الرواية والقصة القصيرة

الكاتب: الدكتور عاطف عطا الله البطرس

الناشر: دار الينابيع، دمشق، 2009