الحق في أن كونك فيلسوفاً يقتضي قطيعة ما أسماه الارتيابيون الـ "بيوس" أي الحياة اليومية، فلقد كان الارتيابيون يمارسون تدريباً يتطلب شيئاً لا يخلو من الغرابة وهو تعليق الحكم، والسعي إلى غاية قلما يعرفها المسلك الحياتي الشائع، وهي السكينة المستمرة والصفاء الروحي الدائم.

الفلاسفة غرباء حقاً، وهم جنس منفصل، فأولئك الأبيقوريون الذين يعيشون حياة مقتصدة يمارسون فيها مساواة تامة بين الرجال والنساء داخل حلقتهم الفلسفية، كذلك الرواقيون الرومان الذين يديرون بنزاهة مقاطعات من الإمبراطورية يولون عليها، فإذا هم الوحداء الذين يأخذون مأخذ الجد قوانين منع السكر أو الإفراط في الشراب، وغريب أيضاً هذا الأفلاطوني الروماني السيناتور روجتيانوس تلميذ أفلوطين، الذي أقدم منذ أول يوم لتوليه وظائف البريتور على التخلي عن مسؤولياته الشخصية وممتلكاته الخاصة وإعتاق العبيد وتناول الطعام غبّا.

وإبان المحاورات الأفلاطونية كان سقراط "أتوبوس" أي المتعذر (غريب الأطوار)، وإن ما يجعله أتوبوس هو بالضبط أنه بالمعنى الأتيمولوجي للكلمة (محب للحكمة)، أو (في علاقة عشق مع الحكمة)، ذلك أن الحكمة فيما تقول ديوتيما في محاورة المأدبة ليست حالة بشرية، إذ هي حالة من كمال الوجود والمعرفة لا يمكن أن تكون إلا إلهية، وعشق هذه الحكمة، هذا العشق الغريب عن العالَم، هو ما يجعل الفيلسوف غريباً فيه.

لذلك ستشيد كل مدرسة تصورها العقلي لهذه الحالة من الكمال في شخص الحكيم، وكل مدرسة ستبذل جهداً لرسم صورته. والحق أن هذا ما سيعتبر مستحيل التحقق تقريباً، فوفقاً لبعض المدارس لم يوجد رجل حكيم قط، ووفقاً لمدارس أخرى ربما كان هناك واحد أو اثنان، ووفقاً لرأي ثالث فإن هذه الحالة قد تبلغ في لحظات نادرة عابرة. وبهذا المعيار المفارق الذي يؤسسه العقل ستعبر كل مدرسة عن رؤيتها الخاصة للعالم، وأسلوبها الخاص في الحياة، وفكرتها الخاصة عن الإنسان الكامل.

وهكذا فإن كل مدرسة تمثل شكلاً للحياة يحدد مثالاً للحكمة، والمحصلة أن كل مدرسة لديها اتجاهها الداخلي الأساسي الخاص بها، وفوق كل شيء فإن كل مدرسة تمارس تدريبات مصممة لكي تحقق التقدم الروحي نحو حالة مثالية من الحكمة ستكون للروح بمثابة تناول علاج طبي، وبصفة عامة تتكون التدريبات في المقام الأول من السيطرة على النفس والتأمل.

بالنسبة إلى الرواقيين ليست الفلسفة تعليم نظرية مجردة أو تفسير نصوص، إنما هي (تعلم فن العيش)، وموقف عياني وأسلوب محدد في الحياة يشمل الوجود بكليته.

والحقيقة أنه ليس الرواقيون فقط بل تتفق المدارس الفلسفية جميعاً على أن السبب الرئيسي لمعاناة الجنس البشري واضطراب وعيه هو الأهواء والانفعالات، وهناك تنبري الفلسفة كعلاج للانفعالات في المقام الأول، ولكل مدرسة فلسفية طريقتها العلاجية الخاصة، غير أنها جميعها تهدف إلى إحداث تحول عميق في أسلوب المرء في الرؤية والوجود، وتتخذ من التدريبات الروحية وسيلة إلى هذا التحول العميق.

كذلك من المرجح أن ممارسة التدريبات الروحية كانت متجذرة في تعاليم تعود إلى أزمنة موغلة في القدم، غير أن شخصية سقراط هي التي جعلتها تبزغ في الوعي الغربي، وقد كانت وظلت هذه الشخصية النداء الحي الذي يوقظ ضميرنا الأخلاقي. وقد تردد هذا النداء في شكل محدد وهو (الحوار). وقد كشفت محاورات سقراط عن نوع من التدريب الروحي الجمعي، حيث كان المتحاورون فيها مدعوين إلى المشاركة في تدريبات روحية داخلية، والإذعان إلى القول المأثور "اعرف نفسك".

ومن أغرب التدريبات الروحية (تعلم أن تموت)، وهنا ثمة صلة ملغزة بين اللغة والموت، وقد كانت هذه إحدى الثيمات المفضلة عند برايس بارين المتأخر، الذي كتب: "لا تنمو اللغة إلا على موت الأفراد". لقد عرض سقراط نفسه للموت من أجل الفضيلة، وفضل أن يموت على أن يتخلى عن مطالب ضميره، رافعاً بذلك الخير فوق الوجود، والفكر والضمير فوق الحياة في الجسد. فالفلسفة تخضع إرادة الجسد لأن يحيا وفق المطالب العليا للفكر. وهنا يمكن القول إن الفلسفة تدريب على الموت.

وعندما نقرأ أعمال الفلاسفة القدامى علينا أن نولي انتباهاً أكبر للمواقف الوجودية المتبطنة للصروح المذهبية التي نقابلها، وسواء كان علينا أن نتعامل مع محاورات كما في حالة أفلاطون، أو تدوين محاضرات كما في حالة أرسطو، أو رسائل مثل رسائل أفلوطين، أو تعليقات مثل تعليقات بروكلوس، فإن أعمال الفيلسوف لا يمكن أن تفسر دون النظر في الموقف العياني الذي تولدت عنه، إنها منتجات مدرسة فلسفية بأقصى معنى عياني للكلمة، يقوم فيها أستاذ بتشكيل تلاميذه، محاولاً أن يرشدهم إلى تحويل النفس وتحقيقها، ومن ثم فإن العمل المكتوب هو انعكاس لشواغل بيداجوجية وسيكولوجية وميثودولوجية، لذلك (تعلم أن تقرأ).

وفي كتابه "الفلسفة طريقة حياة" يشير بيير آدو إلى أن هذه التدريبات يمكن أن تسوغها خطابات فلسفية شديدة التنوع، وهذه الخطابات لا تعدو أن تكون محاولات خرقاء آتية بعد الواقعة، لوصف أو تبرير خبرات داخلية تتأبى كثافتها الوجودية في النهاية على أي محاولة للتنظير أو التمذهب.

ويهيب الرواقيون والأبيقوريون بتلاميذهم أن يلتفتوا إلى اللحظة الحاضرة، ويتخلصوا من القلق على المستقبل ومن عبء الماضي، إلا أن شخصاً يمارس هذا التدريب سيرى العالم بأعين جديدة، وفي استمتاعه بالحاضر المحض، يكتشف سر الوجود وروعته، والمرء إذ يمارسها يعيش وفق العقل الكلي بكل معنى الكلمة.

إذاً الفلسفة هي طريقة حياة سواء في ممارستها وسعيها لتحقيق الحكمة، أو في هدفها (الحكمة نفسها)، ذلك أن الحكمة الحقيقية لا تؤدي بنا إلى أن نعرف فحسب، بل أن نكون أو نوجد بطريقة أخرى، والحكمة هي طريقة عيش تقدم السلام العقلي والحرية الداخلية والوعي الكوني.

----

الكتاب: الفلسفة طريقة حياة

الكاتب: بيير آدو

ترجمة: عادل مصطفى

الناشر: مؤسسة هنداوي