ترك كتبة العرب في الأبحاث الجغرافية من الآثار ما لا يجاريهم في كثرتها غيرهم من الشعوب، ومما زاد العرب نشاطاً في درس البلدان وأعانهم على الرصود الجغرافية، هي الفتوحات العظيمة في القرنين السابع والثامن، لذا يجب الإقرار بفضل كتبة العرب في وصف البلدان وتعريف خواصها.

ولقد كان من أفضل كتبة الجغرافيا بين قدماء العرب شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر البناء "المقدسي"، وقد تفوق على من تقدمه بوفرة معلوماته وحسن أسلوبه، حيث تحرّى في عمله طريقة نظامية تجعل تأليفه في مقام رفيع.

وقد افتتح المقدسي كتابه "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم" بمقدمة حسنة إجمالاً، فكتب في وصف إقليم الشام بجليل الشأن ودار النبيين، ومركز الصالحين، ومعدن البدلاء، ومطلب الفضلاء، به القبلة الأولى، وموضع الحشر والمسرى، والأرض المقدسة، والرباطات الفاضلة، والثغور الجليلة، والجبال الشريفة، ومهاجر إبراهيم وقبره، وديار أيوب وبئره، ومحراب داود وبابه، وعجائب سليمان ومدنه، وتربة اسحق وأمه، ومولد المسيح ومهده، وقرية طالوت ونهره، ومقتل جالوت وحصنه، وجب إرميا وحبسه، ومسجد أوريا وبيته، وقبة محمد وبابه، وصخرة موسى، ومضجع إبراهيم ومقبرته، ومدينة عسقلان، وعين سلوان، وموضع لقمان، ووادي كنعان، ومدائن لوط، وموضع الجنان، ثم به دمشق جنة الدنيا، وصغر البصرة الصغرى، والرملة البهية، وخبزها الحواري، وإيليا الفاضلة بلا لأوى، وحمص المعروفة بالرخص وطيب الهواء، وجبل بصرى وكرومه فلا تُنسى، وطبرية الجليلة بالدخل والقرى، ثم البحر يمد على طرفيه، فالحمولات فيه إليه أبداً، وبحر الصين متصل بطرفه الأقصى، له سهل وجبل وإغوار وأشياء، والبادية على تخومه كالزقاق منه إلى تيماء، وبه معادن الرخام وعقاقير كل دواء، ويسار وتجار ولباقة وفقهاء وكتّاب وصناع وأطباء.

وبعد هذه المقدمات أخذ المقدسي يستقري كور الشام واحدةً واحدة مباشرة من جهة الشمال وهو يحصيها ستة (قنسرين ثم حمص ثم دمشق، ثم الأردن ثم فلسطين ثم الشراة)، وهذه الكور توافق الخمسة الأجناد التي قسمت إليها بلاد الشام منذ أول الفتح الإسلامي. أما المدن الساحلية فإنها على ما يظهر كانت قليلة الشأن بالنسبة إلى حمص ودمشق، فإن المقدسي لا يكاد يزيد على ذكر أسمائها.

وقد كان المقدسي يفتتح كلامه بوصف أحوال الجو في بلاد الشام، فقد وصف الإقليم بأنه متوسط الهواء إلا أوسطه من الشراة إلى الحولة، أما أشد هذا الإقليم برداً فهي بعلبك وما حولها، وهو إقليم مبارك وبلد الرخص والفواكه والصالحين، وكل ما علا منه نحو الروم كان أكثر أنهاراً وثماراً وأبرد هواء، وما سفُل منه أفضل وأطيب وألذ ثماراً وأكثر نخيلاً ليس فيه نهر يُسافر فيه.

ومن الظواهر الجوية التي ذكرها المقدسي الندى في بلاد الشام، خصوصاً في جهات فلسطين، ووفرة الندى كما هو معلوم من البركات التي يستدرها الناس من السماء، ويعد بها الكتاب الكريم كالغيث والمطر.

وأعقب المقدسي ذكر الظواهر الجوية بوصف التجارات، أي الغلات الصادرة من الشام، وفي تعداده هذا دليل واضح على تقدم التجارة والصناعة في ذلك العهد، كما يشهد على كثرة تلك الصادرات وثمنها.

ابن جبير

في رحلة ابن جبير وبعد أن اجتاز بلاد الجزيرة قطع الفرات، كان أول ما لقيه في جهة بلاد الشام منبج، فاسترسل في وصفها بالسجع، ثم سار من منبج إلى حلب فوصفها وصفاً طويلاً، وألحق هذا الوصف باشتقاق حلب فقال: "كانت قديماً في الزمان الأول ربوة يأوي إليها إبراهيم الخليل بغنيمات له فيحلبها هناك ويتصدق بلبنها، فلذلك سميت حلب والله أعلم".

ومن ملحوظات ابن جبير في مسيره من حلب إلى دمشق، أن خانات هذا الطريق كأنها القلاع امتناعاً وحصانة، وأبوابها حديد وهي من الوثاقة في الغاية. ثم مرّ ابن جبير في رستن فأشار إلى آثارها العظيمة، وأثنى في حمص محاسن بساتينها وطيب هوائها وأسوار المدينة الغاية في الوثاقة والعتاقة.

وواصل سيره من حمص إلى دمشق، فكانت الطريق بينهما قليلة العمران إلا ثلاث أو أربع قرى، وعن أبنية دمشق قال: "بهذه البلدة نحو عشرين مدرسة وبها مارستانان، قديم وحديث، والحديث أحفلهما وأكبرهما، وجرايته في اليوم نحو خمسة عشر ديناراً، وله قومة بأيديهم الأزمة المحتوية على أسماء المرضى، والأطباء يبكرون إليه كل يوم، وهذا القديم فهو غربي الجامع المكرم، وللمجانين المعتقلين أيضاً ضرب من العلاج".

كذلك كتب ابن جبير عن الساعة الدقاقة التي كانت على باب جيرون وهي من عجائب ذلك الزمان، وعن الجامع الكبير الذي اتسع في وصف أرخامه الملونة وبلاطه المذهب المنقوش بالفصوص البديعة. وله وصف لمساجد أخرى في الغوطة فاض في محاسنها، كما وصف لمسيره بين دمشق وعكا وصور وغيرها.

----

الكتاب: المذكرات الجغرافية في الأقطار السورية

الكاتب: هنري لامنس

الناشر: مؤسسة هنداوي، 2020