يتطرق الكاتب المسرحي فرحان بلبل في كتابه "المسرح السوري في مئة عام" إلى تاريخ المسرح في بلدنا في السنوات المئة الأولى، وذلك حسب تطوره وامتداده من مدينة إلى مدينة، والذي يبدأ من دمشق حيث الولادة الأولى، وإلى حمص متابعاً، ثم يمتد إلى حلب ومنها إلى حماة وبقية المدن السورية. ويؤكد بلبل بأنه لا تكاد تنتهي المئة الأولى بين عامي (1847- 1946) من عمر المسرح السوري حتى يكون قد شمل أكثر المدن وأصبح جزءاً من حياتها الثقافية والاجتماعية.

جعل المؤلف كتابه هذا في قسمين، في الأول منه يتحدث عن ريادة المسرح العربي بشكل عام، وتناول في القسم الثاني تاريخ المسرح السوري منذ ما بعد أبي خليل القباني حتى الاستقلال عن الانتداب الفرنسي، معتمداً على المعلومات والأخبار المتفرقة هنا وهناك عن المسرح السوري في مصادر تاريخه المختلفة كالكتب وأبحاث دونها الدارسون والمؤرخون ومذكرات شخصية قدمها المسرحيون أنفسهم، مقدماً بين دفتي الكتاب حقائق ربما كان الكثير يجهلها، بأسلوب ليس محصوراً بسرد التاريخي المجرد فحسب، بل ملأه بالمثير من أخبار الصحف القديمة التي تطرقت إلى المسرح السوري وبعدد من الطرائف الذكريات الشخصية للمسرحيين وبظرافات نادرة وقعت لهم أو قاموا بها، وفي الوقت ذاته يجسد صورة عن الحياة الاجتماعية والسياسية السائدة وقتذاك.

لم يكتف الكاتب بسرد سيرة المسرح السوري من خلال الوقائع والأحداث، بل ذهب إلى أعمق من ذلك حيث قام بتفسير تلك الوقائع، التعميق في معاني النصوص واستنباط الأحكام منها، ليقدم للقارئ لوحة للمسرح السوري، لوحة تفسيرية متكاملة الأجزاء.

حقيقة أخرى

يذكر بلبل حول ريادة المسرح السوري حقيقة تاريخية أعتقد بأنها مجهولة عند الكثيرين، معتمداً فيها على ما دونه الكاتب هيثم خواجة في مؤلفه "حركة المسرح في حمص"، فمن الشائع في الكتب والدراسات عن المسرح أن الريادة الثانية تحققت فيه على يد أبي خيل القباني أو قبل ذلك بقليل، لكن ثمة حقيقة أخرى مجهولة يدونها الكتاب مؤكداً بأن بداية المسرح في حمص كانت عام 1860 حيث يذكر الخواجة بأن مراد السباعي أشار في حديث معه إلى أن والده حدثه عن السيد سليمان صافي كيف أنه كان يملك حديقة واسعة مليئة بالأزهار، وفي داخل الحديقة كان يقدم مسرحيات حوارية مؤلفة من شخصين أو ثلاثة، وباعتباره لبّس الصبيان لباس البنات ليقوموا بأدوار أنثوية، هاجمه الأهالي حمص بشدة، وقد أذعن واضطر إلى التوقف عن العمل. ويؤكد بلبل بأن الخواجة يحدد هذه الأحداث عام 1860، ويتابع على لسان المصدر ذاته بأن الاستاذ رضا صافي أكد هذه الفكرة وأضاف أن منزل سليمان صافي هذا موقعه في شارع بيت رجوب قبل هدمه وإنشاء بناء جديد مكانه.

المدرسة الشامية

يتضمن الكتاب عناوين ومصطلحات كثيرة، والمراحل التي مر بها المسرح السوري لا سيما مرحلة ما قبل الحرب العالمية وبعدها، والظروف السياسية والاجتماعية التي أثرت بهيكلية المسرح إجمالاً، يستخدم مصطلح "المدرسة الشامية" ويصفها بأنها أطلقت على النشاط المسرحي الذي امتد إلى مصر وبلاد الشام وذلك منذ نشأة المسرح العربي في أواسط القرن العشرين حتى الحرب العالمية الأولى، ويذكر بأن هذا المصطلح وجد عند عادل أبو شنب وعدنان بن ذريل.

يركز بلبل على المسرح في حمص ودمشق وحماة وحلب، هذه المدن التي حققت المسار المسرحي السوري، ويشير بالقول إن المسرح في حلب بدأ بعد الحرب العالمية الأولى قول يؤكده الواقع مادام التاريخ ينفي عكس ذلك، لكن طبيعة الأعمال المسرحية التي قدمت، بتوجهاتها وبمهامها الفكرية، تؤكد أنها لم تنشأ من الفراغ مسرحي سابق، وأن ثمة وجوداً مسرحياً لا نعرفه. ويذكر بأن حماة عرفت مبادرات مسرحية بدائية خنقتها الحرب العالمية الأولى، فقد أخذت تعرف المسرح الحقيقي منذ بداية الثلاثينات بأشكال شتى، منها الاستماع لرواة السير الشعبية في المقاهي ومشاهدة مسرح خيال الظل، وحلبات المصارعة العربية والمبارزة بالسيف والترس وسباق الخيل والعراضات ومشاهد تمثيلية تجسد العطفة أو العمارية. ورغم أن هذه المدينة شهدت ولادة جديدة للمسرح من دون أن تلغي الأشكال الاحتفالية هذا، وبدورها اللاذقية بدأت تتعرف إلى المسرح منذ عام 1928 حينما زارتها فرقة فاطمة رشدي، وفرقة أمين عطا الله، وتشكل فيها ناد موسيقي عام 1936 له اهتمامات بالمسرح. وفي العام ذاته تأسس في القامشلي نادي الرافدين الذي عني بأمور الفنون الجميلة. ويعتقد صاحب الكتاب بأن المسرح بدأ ينتشر في بقية المدن السورية منذ بداية الثلاثينات، وإذا كانت المصادر لا تشير إلى ذلك إلا ضمن حدود ضيقة، ولكن ذكريات الناس الذين يحدثونك عن المسرح تؤكد بما يشبه اليقين في هذا الشأن.

المسرح والنضال التحرري

عموماً كان المسرح السوري يتجه في مسار واحد تقريباً واعتبرت وسيلة للنضال والتحرر، فمن طرائف الأمور أن دمشق قدمت بين عامي 1919 و1920 مسرحيتي "جمال باشا السفاح" لمعروف الأرناؤوط و"تتويج الملك فيصل" لعبد الوهاب أبو السعود، وأن حمص قدمت في الفترة نفسها مسرحيتي "مظالم السفاح جمال باشا" و"جلاء الأتراك عن سورية" وهما لمحمد خالد الشلبي. وعندما أدلت حماة بدلوها في بداية الثلاثينات كان المسرح فيها سياسياً أيضاً، فقد كانت الكتلة الوطنية الهيئة السياسية التي تستقطب النضال الشعبي والأمل المرتجى في تحرير البلاد من الاستعمار وإنصاف الجماهير الفقيرة، وكانت تعمد إلى إيقاظ الوعي الاجتماعي والمشاعر القومية والنضالية عن طريق الأنشطة الثقافية والرياضية وتحت ذريعتها، ومن هذه الأنشطة اللون التمثيلي.

كتاب "المسرح السوري في مئة عام" وثيقة تاريخية ليس للمسرح فحسب بل وثيقة للأوضاع الاجتماعية والسياسية السائدة أثناء الفترة الأخيرة للاستعمار العثماني والنضال ضد الاستعمار الفرنسي، حيث يتحدث المسرحي فرحان بلبل، وبشكل واسع عن الثورة السورية الكبرى وشخصيات ناضلت من أجل الاستقلال من خلال الحديث عن مسيرة المسرح طالما هذا الفن الراقي هو مرآة للمجتمع ككل، والأقرب من الناس ومعاناتهم.

----

الكتاب: المسرح السوري في مئة عام (1847- 1946)

الكتاب: فرحان بلبل

الناشر: وزارة الثقافة، المعهد العالي للفنون المسرحية، 1997