نظراً لتشابه المدن العربية الإسلامية في تحديد عناصر وجودها، وذلك للوحدة الجغرافية والتاريخية والبشرية والعقائدية فيما بينها، اتخذ الدكتور عفيف البهنسي من دمشق أنموذجاً أساسياً لدراسته، كونها قطب أساسي من أقطاب البلاد العربية الإسلامية.

اشترك في تحديد وجود مدينة دمشق نهر بردى والغوطة التي تكونت بفعل هذا النهر، فكان موقعها في البقعة التي توزعت فيها مياه النهر وتشابكت فروعه فيها. أما المسكن فهو في تكوينه وهندسته شديد الانسجام مع ظروف المناخ، فتجده يمتد بشكل مستطيل من الشمال إلى الجنوب منحرفاً 20 درجة نحو الغرب لتحقيق الاستفادة من أشعة الشمس الجنوبية وتحاشي الرياح الغربية والشمالية الغربية، كما تلتصق المساكن ببعضها، أو تفصلها الأزقة الضيقة، مما يعطي طابع التلاحم والتماسك للمدينة وأحيائها.

ولقد كان العامل الجغرافي قديماً وثابتاً منذ العصر الجيولوجي الرابع على الأقل، وهو الناظم الأساسي لتطور المدينة عبر التاريخ، كما أن مدينة دمشق حملت طابعها العمراني والمعماري منذ القدم، وما زال هذا الطابع قائماً حتى اليوم. ولعل هذه الوحدة الراسخة والمستمرة هي التي تعطي دمشق الأهمية العالمية من أنها أقدم مدينة في العالم ولا تزال زاهرة عبر القرون، وهي قديمة لا تزال محافظة على خصائصها عبر التاريخ.

تكوين دمشق

ولقد كانت دمشق القديمة محاطة بسور منيع، فقد أنشأ الرومان السور مستطيلاً يضم أرضاً مساحتها 105 هكتاراً، ثم تغيرت جوانبه مع اتساع المدينة عدا الجانب الشمالي الذي يحده نهر بردى. ومن أبواب المدينة القديمة الباب الشرقي وهو روماني الأصل، والباب الكبير الجابية في الغرب، وباب الصغير وباب السلام وباب الفرج وهي إسلامية تقع في الشمال، وباب كيسان في الجنوب، ولقد زال باب النصر عام 1863م عند إنشاء سوق الحميدية.

والمنطقة الثانية في دراسة دمشق وتكوينها هي منطقة الميدان والأحياء الجنوبية، فشارع النصر الممتد من سوق الحميدية حتى محطة الحجاز يعتبر الحد الشمالي للمنطقة الثانية، وسمي بذلك نسبة إلى باب النصر الذي كان ينفتح في سور المدينة عند مدخل سوق الحميدية، وإلى الشمال من شارع النصر تقع منطقة السنجقدار، ثم منطقة حكر السماق التي نظمها الأمير تنكز المملوكي، أما في الجنوب فنرى قصر العدل وبعده حي القنوات ثم شارع خالد بن الوليد.

وما إن ننتهي إلى محطة الحجاز فإننا ننحرف شمالاً لنهبط إلى شارع سعد الله الجابري الممتد حتى نهر بردى، وبعد المحطة يقع حي الحلبوني الذي سمي في عهد المماليك "الخلخال" وهو من أرقى الأحياء. وبالرجوع إلى مدخل سوق الحميدية نتجه جنوباً إلى الميدان مروراً بمنطقة الدرويشية ثم باب الجابية وقصر جحجاح وجادة قبر عاتكة والسويقة ثم باب الصغير أصغر أبواب دمشق، وباب مصلى والميدان الفوقاني.

أما المنطقة الثالثة من دمشق (الشمالية الشرقية) فيفصلها عن أجزاء المدينة سور المدينة الشمالي وشارع الثورة. وإذا سرنا باتجاه السور ابتداءً من شارع الثورة نجد أنفسنا في شارع الملك فيصل، أما بدايته فكانت تحت القلعة حيث سوق البطيخ وسوق الخضار وسوق الخيل الذي محله سوق الهال وسوق التبن.

وإلى الشمال تقوم منطقة العقبة التي أنشأت في عهد الفاطميين، ثم مرج الدحداح وصولاً إلى باب الفراديس وباب العمارة، ثم مسجد الأقصاب حيث الالتقاء بسوق ساروجا الذي أنشأه الأمير صارم الدين صاروجا المظفري عام 740 هجرية. والمنطقة الرابعة تقع ضمن مثلث قائم الزاوية ضلعاه شارع الثورة وشارع شكري القوتلي ووتره شارع المهدي بن بركة، أما المنطقة الخامسة فهي منطقة الصالحية والأكراد حيث يقع حي الصالحية في سفح قاسيون.

ويسمى مركز المدينة الحالي "ساحة الشهداء" أو "المرجة"، ويتوسط بين دمشق القديمة ودمشق الحديثة التي تنامت مع بداية القرن العشرين، وكانت الأحياء الجديدة تكونت خارج الأسوار منذ العهد المملوكي، وقد شكلت أرباضاً مستقلة نذكر منها الصالحية في الشمال، والميدان في الجنوب، وقد تشكلت أحياء قريبة حول جامعي تنكز ويلبغا.

وكان لإنشاء الخط الحديدي الحجازي فضل كبير في إغناء مدينة دمشق بالمباني الضخمة، مما أعطاها طابع المدينة العصرية، وكان السلطان عبد الحميد شديد الحماسة لإنشائه حيث خصص 283 ألف ليرة ذهبية لذلك، واستطاع الوالي ناظم باشا أن يقتصد من نفقات هذا الخط، كما قام بحركة عمرانية ضخمة نفذت وفق مخططات مستمدة من أسلوب العمارة الكلاسي المحدث المنتشر في أوروبا، كما رافق هذا التطور المعماري استعمال الكهرباء وحافلات الترام واستعمال الإسمنت مادة للبناء، وبتحقيق الاتصال البرقي الدولي قامت أول آبدة تذكارية ذات دلالة واقعية هي عمود المرجة.

تحديات المدينة الحديثة

إن أحادية السيمياء التي تتصف بها المدينة الحديثة تعود إلى سيطرة الفعالية الاقتصادية، وظاهرة السيميائية هذه تبدو أكثر وضوحاً في المدن العربية كدمشق، ومن هنا تبدو معالجتها من أهم المسائل المستقبلية وأصعبها.

ولقد تبيّن أن العاصمة تتحمل غالباً العبء الأكبر من آثار التضخم، فكان ثمة اقتراح بتقسيم العاصمة إلى قسمين أو أكثر (قسم ثقافي وإداري، وقسم اقتصادي)، واقتراح آخر هو خلق مدن جديدة تخصص للفعاليات الاقتصادية أو الإدارية الثقافية. لكن هذه المشاريع لم تكن حلاً كاملاً لمسألة السيميائية وتضخم السكان، فكان موضوع توزيع الفعاليات الاقتصادية والاجتماعية بين المدن وعدم حصرها في مدينة واحدة هو الحل الذي جرت عليه أكثر الدول العربية لتحقيق التوازن الحضري. كذلك كان لا بدّ من متابعة مشاريع تنظيم الأسرة والتخفيف من زيادة السكان إلى الحد الطبيعي عن طريق نشر الثقافة الصحية ورفع مستوى الوعي الاجتماعي.

وأمام انتشار التحدي الصناعي المتفاقم كان لا بدّ من وضع خطة منهجية لتنظيم النقل والانتقال في المدينة العربية خاصة المؤلفة من قسمين قديم وحديث، والخاضعة لتخطيط حضري جديد. كما أن أهم مسألة تعترض المخطط الحضري الحديث هي كيفية مجابهة الأضرار المتزايدة والناشئة عن الفضلات السامة أو النفايات الفاسدة التي أصبحت نذيراً خطيراً يهدد حياة السكان وصحتهم ومستقبل مدينتهم.

وقد وضع الارتفاع بمستوى الحياة في دمشق وتضخم الاستهلاك والإنتاج الصناعي وزيادة السكان السلطات البلدية أمام مشكلة زيادة الفضلات البشرية والحيوانية والكيماوية التي تطرحها المعامل، فكانت الطريقة المتبعة هي الأكسدة الطبيعية في مقالب فسيحة خارج المدينة، ثم استعمال هذه القمامة بعد تحويلها إلى سماد عضوي لأعمال الزراعة.

----

الكتاب: عمران الفيحاء، دراسة في تكوين مدينة دمشق

الكاتب: د. عفيف البهنسي

الناشر: دار الفكر، دمشق