ربما قليلون الذين يعرفون عن نتاج جيمس جويس (1882 – 1941)، أكثر من روايته الذائعة الصيت "يولسيس" التي كانت رواية مدينة دبلن في إيرلندة. تلك الرواية ولشدّة براعة صياغتها، أنها أضافت جماليات أخرى للمدينة، إلى درجة أصبحت الدروب والمعالم التي تحدثت عنها الرواية، دروب حج محبّي السياحة، وكانت مُحرضة لزيارة تلك المعالم، حيث يزورها السياح من وجهة نظر روائية غاية في الإبداع.

إن لـجيمس جويس نتاجات أخرى غير هذه الرواية، بل في مجال إبداعي آخر، وهو الشعر، ذلك ما تقدّمه إلى القارئ العربي المترجمة سمرا محفوض، في كتاب "موسيقا جويس" الذي يضمَّ ست مجموعات شعرية. وهي مجموعات: "موسيقى الحجرة، أشعار البينس، قصة بيرسي اورايلي، قصائد مبكرة، قصائد لاحقة، وأخيراً جياكومو جويس". قصائد تتدرج من الوجدانيات، ثم تتصاعد صوب القصيدة الحكائية، وأخيراً، القصة الشعرية، وحتى النصوص الشعرية التي كان يبثها جويس في رواياته على لسان شخصيات تلك الروايات. ذلك الشعر الذي تقول عنه مُترجمة الكتاب في مقدمتها له: "وأما في الشعر، فقد تخطى جويس الشعر التقليدي، ليُقدّم نمطاً شعريّاً موسيقيّاً خاصّاً به".

وفي نصوص هذا الكتاب، سيتلمس المتلقي مناخات كثيرة في الموسيقا، تلك المفردة – الموسيقا التي سيشعر بها هي الأخرى في غير مكان سواء في الكتاب أو في حياة جويس نفسه. ومن هنا نتفهّم عنوان الكتاب الذي يحكي عن "موسيقا جويس" كما تمّ عنونته، وهو ما سنلمسه في قراءة النصوص، وذلك بحرصه على صياغة قصائده وبنائها من خلال المفردة ذات الطاقة العالية في الموسيقا أو النغم، أو حتى في تركيب الجملة الشعرية التي مالت صوب الغنائية، وربما من هنا أيضاً نتفّهم إقدام أحد أصدقائه الموسيقيين – مولينوكس بالمر - على تلحين كامل قصائد ديوان (موسيقى الحجرة)، والأخيرة التي أخذت عنوانها من نوعٍ من الموسيقا الكلاسيكية المعروفة.

و(موسيقى الحجرة) هي من أولى الأعمال الشعرية المنشورة لجويس، كتبها بين العامين (1901- 1904)، وهي ست وثلاثين قصيدة، وبرأي مترجمة الكتاب، إنها "قصائد غنائية تصفُ التأرجح في الحب المثالي بين صعودٍ وهبوط". غير أن مرجعية جويس في هذه النصوص، كما في غيرها من نتاجه الشعري، تعود إلى نشأته في فضاء مُفعم بالموسيقا، حيث كان والده يمتلك مهارات كبيرة وشبه مهنية كمغن، وهو ما مكّنه من امتلاك إرثٍ موسيقيٍّ، إضافة إلى ما عُرف عنه شخصياً من صوتٍ عذبٍ ورائع. كلُّ تلك المناخات الموسيقية سيظهر تأثيرها جليّاً في بناء الجملة الشعرية وصياغتها بصورة أقرب للغنانية. ويُمكن أن نُضيف ملمحاً آخر على قصيدة جويس، غير اتشاحها بالموسيقا، وهي إدخال مفردات من اللغات الإيطالية والألمانية والفرنسية في نصه الشعري المكتوب والمُصاغ بالإنكليزية، وتعود مرجعية ذلك إلى كونه متعدد اللغات، وهذا ما منح نصه الشعري تميزاً مختلفاً في ذلك الحين من الزمان.

وفي مجموعة (موسيقى الحجرة) التي ستكون غاية هذا المقال، مع مجموعة (قصائد البينس)، فهو يذكر: إنّ السبب في عدم حبّي (لموسيقى الحجرة) كعنوان لمجموعتي الشعرية؛ هو أنه عنوانٌ لطيف. وكنتُ لأفضّل عنواناً له علاقة بالكتاب أكثر من ذلك، دون أن يؤدي إلى الاستحقاق به له علاقة بالكتاب أكثر.

وأنت تقرأ مقاطع في قصيدة (أوتارٌ في الأرض وفي السماء)؛ تشعر أنّ جويس يصطاد (الألحان) من مطارح عديدة في الطبيعة. عدتّه في ذلك تأمل بعيد، وإصغاء بآذان لا تُخطئ الأنغام حيث كلّ ما في الطبيعة يصنع هذا الهارموني العالي و"الكل يعزفُ بحنيّةٍ. برأس حانٍ للموسيقا، وأصابع مبعثرة على آلة".

"أوتارٌ في الأرض

وفي السماء

تعزفُ الموسيقا بلطفٍ

أوتارٌ عبر الأنهار

حيث يلتقي الصفصاف".

وفي قصائده لا يصطاد جويس صدى الألحان والنغم التي تنثرها أشجار الطبيعة، أو صوت مياه الأنهار والسواقي، وإنما هو فنانٌ تشكيلي يرسمُ مشاهد احتفالات موسيقا الأشجار وأصوات المياه. مشاهد ملونة متممةً ألوانها مع نغماتها الموسيقية. ففي قصيدته (يتبدّل الشفق)؛ هو فنان انطباعي، يُنافس في تصويره الفنانين الروس الانطباعيين وهم يرصدون مناخات الضوء على مشاهد الطبيعة. فالمشهد الذي تتأمله في الصباح سيكونُ بلونٍ آخر عند الظهيرة، كما سيكون بلونٍ ثالث عند المساء.

"يتبدّلُ الشفقُ

من اللون الأرجواني

إلى القاتم الأزرق..

والأزرق الأكثر قتامة..

يتعشّقُ المصباحُ

وهجاً أخضرَ شاحباً

لوّن أشجار الشارع".

وبالعودة إلى الموسيقا التي يلتقطها جويس في تأملاته من الإصغاء حيناً للطبيعة، أو بمشاهداته طوراً، فهو يترصد الضوء الذي يمنح الأشياء وعناصر الطبيعة ألوانها التي تليق. هو لا يقفُ عند الأشفاق والنهارات وحسب، فلسكون الليل موسيقاه هو الآخر. هذا الليل الذي يراه الشاعر بعين القلب ليس أسود أو معتماً. تلك الموسيقا التي تأتي في هدأة الليل، وقبل ذلك في غسق المساءات، وشفق الصباح؛ يترنمُ بها جويس كرجاءٍ لسلام هذا الكون. يبثها رسالة من الحبّ الخالص علّ البوابات المغلقة والشاحبة تُفتحُ لشروق الشمس كي يعبرُ عامراً بموسيقا الضياء.

"في الساعة

حين ترقدُ كلُّ الأشياء..

يا مراقبَ السماء

هل تسمعً ريحَ الليل،

وتنهدّات القيثارات،

وهي تعزفُ للحبّ؛

لتفتحَ البوابات الشاحبة

لشروقِ الشمس؟".

فكلّ ما في الطبيعة يعزف، ويغني، ولكلَّ كائنٍ عزفه الخاص الذي يُتمم سمفونية الطبيعة الكاملة، كلُّ هذه النغمات التي يتسجمعها جويس حسب إضغائه لأصوات الطبيعة، يرسمها يمفردات تميل هي الأخرى إلى جرسٍ موسيقيٍّ ما، يختارها في بناء نصه الغنائي بغير مستوى. الأول: في اختياره المفردات الرقيقة المفعمة بالعذوبة، وهي غالباً من جماليات الطبيعة سواء التي تنضح بالنغم والألحان مثل: الليل، النهر، الصفصاف، النجمة.. إلخ، والثاني: بالمفردات التي تشي بالألوان، والألوان التي هي الأخرى تميل صوب النغم، وهناك من أجرى دراسات لمقاربات اللون بالعلامات الموسيقية، وكثيراً ما يُستخدم مصطلح "التونات" في قراءة الألوان في اللوحات التشكيلية، وهو في المستويين يُشيد عمارة موسيقية ملونة غنائية بكل أنغام الفرح لأجل السلام والحب والتوهج، وخشية ريحٍ فظة. هنا حيث الحبيبة بلباسٍ شفافٍ بين شجر التفاح، وحيث للرياحِ المرحة رغبةٌ عارمةٌ لتركضَ معها.

"وحيث السماءُ

بلونٍ أزرق باهتٍ

تنكبُّ فوق الأرض الضاحكة

تمضي حبيبتي برفقٍ

بيدٍ رقيقةٍ

تمسكُ فستانها".

في هذه المناخات الخضراء المبهجة كربيعٍ لا يفنى، وكأنّ كلّ معطيات الطبيعة تتساند وتتعاون لصنع الجمال، ولأجل حبّ الشاعر ولقائه مع حبيبته، هذا ما ستقدمُ عليه طرقات الغابة، وضوء الشمس، ورياحُ أيّار. تلك الراقصة على البحر متجولة من أخدود إلى أخدود حيث الزبدُ يعلو عالياً.

وفي (أشعار البينس)، المجموعة الشعرية الثانية لجويس في هذا الكتاب، ثلاث عشرة قصيدة، ورغم احتفاظ هذه القصائد بالغنائية السابقة في مجموعة (موسيقى الحجرة)، غير أنّ النص هنا يأخذ منحى الحكاية بدل الاكتفاء بتصوير المشاهد متجاوزاً الكثير من الحالات الوجدانية والخواطر صوب الشعر الحقيقي كما يصف هذه القصائد "روبيرت هيلير". المشهد الذي يرسمه هذه المرة على إيقاع من الدراما، كما في مشهد راعي الغنم في قصيدة "تيللي"، أو مشاهد القوارب الشراعية في "سان سابا" لكن يتم ذلك بنفس معجمه من المفردات العذبة من سكون الليل، وجماليات الصباحات، وخرير المياه في السواقي، فتلك ستبقى خلفية لحزن الوجوه والضياع. ذلك أنه في نصوص هذه المجموعة سيسرد جويس قصصاً لصيادين وفتيات صغيرات، وأصدقاء يرحلون، وهو ما سيجد له معادله في الطبيعة، فهي تحزن لحزنه وترثي شقاء الوجوه التي يُصورها، فالمطر يصيرُ أسود ورمادياً، وحيث كلُّ شيءٍ يتبدد في جنةٍ "بلا طيور"، والريح التي كانت تغني في الليل تمسي تئنّ في الخشب، والبحر الخرف يعدّ كلّ حجرٍ فضيّ موحل.

"هديرُ مياهٍ بلا رحمة

يُرنّح

ويرفع لبدة الأعشاب

حيث نجوم اليوم الكئيب

تهبطُ على البحر

بازدراءٍ ثقيل".

----

الكتاب: موسيقى جويس

الكاتب: جيمس جويس

ترجمة: سمرا محفوض

الناشر: دار دال