في العام 1895 أصدر المؤرخ وعالم الاجتماع الفرنسي غوستاف لوبون دراسة كان لها وقع كبير في عالمي السياسة والعلم، جعل عنوانها "علم نفس الجماهير"، وقد كانت هذه الدراسة الأولى من نوعها ومثلت فتحاً علمياً حقيقياً.

يقول لوبون إن أهم سمة تميز الجمهور النفسي هي أنه أياً كان الأفراد الذين يتألف منهم ومهما تكن طرز حياتهم ومشاغلهم وطباعهم وذكاؤهم متشابهة أو متباينة، فإن مجرد تحولهم إلى جمهور يزودهم بنوع من النفس الجماعية تجعلهم يحسون ويفكرون ويعملون على نحو مغاير تماماً لذاك الذي كان سيشعر به ويتصرف على أساسه كل منهم على حدة، وبعض الأفكار وبعض المشاعر لا تتحول إلى أفعال إلا لدى أفراد الجمهور، فالجمهور النفسي كائن مؤقت يتألف من عناصر متنافرة، التحمت لحين من الزمن تماماً كما تشكل خلايا الجسم الحي باتحادها كائناً جديداً ينم عن سمات مختلفة غاية الاختلاف عن السمات التي تتميز بها كل خلية من هذه الخلايا.

ويرى لوبون أن المكتسبات الفردية تضمحل في إطار الجمهور وتزول معها الشخصية الخاصة لكل واحد من أفراده ويحتل الموروث اللاشعوري للعرق مكانة الصدارة، فينصهر المتنافر ويذوب في المتجانس. وهنا يبيّن سيغموند فرويد أن البيئة النفسية الفوقية التي تكونت على إثر تطور متباين من فرد إلى آخر قد تقوضت، معرّية القاعدة اللاشعورية الأحادية الشكل والمشتركة بين الجميع، وعلى هذا النحو يتكون الطابع المتوسط للفرد في جمهور، لكن لوبون يرى - بحسب فرويد- أن الفرد المنخرط في جمهور يتسم علاوة على ذلك بصفات جديدة ما كان ليمتلكها سابقاً، محاولاً أن يفسر ظهور هذه الصفات الجديدة بثلاثة عوامل مختلفة، أولها أن الفرد في جمهور يكتسب بحكم العدد وحده شعوراً بقوة لا تُقهر، يتيح له الاستسلام لغرائز ما كان ليكبحها فيما لو لبث وحيداً. فالفرد في الجمع يرى نفسه في شروط تتيح له أن يفك أسر ميوله اللاشعورية المقموعة، وثانياً هناك العدوى العقلية، وهي ظاهرة تسهل ملاحظتها لكنها لا تزال بلا تفسير، فكل فعل لدى الجمهور هو معدٍ إلى حد يضحي معه الفرد بسهولة كبيرة بمصلحته الشخصية على مذبح المصلحة الجماعية، وهذه قابلية معاكسة لطبيعته، ولا يقتدر عليها الإنسان إلا متى صار جزءاً من جمهور. أما العامل الثالث فهو الأهم ويتمثل بقابلية تأثر الأفراد في الجمهور بالإيحاء، وهي قابلية لا تعدي، بل حالة خاصة قريبة غاية القرب من حالة افتتان المنوَّم بين يدي منوِّمه، حيث يغدو المنوَّم عبداً لجميع نشاطاته اللاواعية يوجهه المنوِّم كما يشاء، فتتلاشى شخصيته الواعية وإرادته وتمييزه يلتغيان، عندئذٍ تتوجه مشاعره وأفكاره في الوجهة التي يحددها المنوِّم.

والجمهور بالنسبة إلى لوبون اندفاعي سريع الحركة وسريع الانفعال، ويكاد اللاشعور أن يكون دليله الأوحد، كما أن لا شيء عند الجمهور مسبق التصميم، فهو قاصر عن الإرادة المثابرة، ولا يتحمل أي فاصل زمني بين الرغبة وتحقيقها، والجمهور كذلك سريع التأثر والتصديق ويعوزه الحس النقدي، ولا وجود في نظره للمستبعد الحدوث، وعندما يفكر يفكرُ بصورة تستتبع واحدتها الأخرى بقوة التداعي. كما أن الجماهير سريعة المبادرة إلى التطرف ولا تتأثر إلا بالتحريضات، ومن يريد التأثير على الجمهور فما به حاجة إلى أن يعطي حججه طابعاً منطقياً، إنما حسبه أن يقدم صوراً صارخة الألوان، وأن يبالغ وبغلو، وأن يكرر بلا انقطاع الشيء ذاته.

وبالنسبة إلى فرويد فإن الازدراء أو التعالي اللذان يعبر بهما لوبون عن آرائه بصدد تظاهرات نفسية الجماهير، فقد سبقه إلى التعبير عنها بقدر مماثل من القوة والعدائية مفكرون ورجال دولة وشعراء من الأزمنة كافة ومن كافة الأمصار، والمسلمتان اللتان تنطوي عليهما أحد تصوراته للوظيفة العقلية والمغالاة في انفعالية الجماهير فقد سبقه إلى صياغتها بزمن قصير سيغيل، أما الشيء الخاص الذي أتى به لوبون فهو تصوره عن اللاشعور والمقارنة مع حياة البدائيين النفسية.

ويُبيّن فرويد أنه فيما يتعلق بمورفولوجيا الجماهير باستطاعتنا التمييز بين صنوف عدة من الجماهير، وأن هذه الجماهير يمكن أن تسلك في تشكيلها وتكوينها اتجاهات متعاكسة في كثير من الأحيان، ولم يعتمد فرويد لأبحاثه تشكيلاً جماعياً بسيطاً وبدائياً، بل جماهير دائمة، اصطناعية، ذات درجة عالية للغاية من التنظيم، وربما كان الأكثر إثارة للاهتمام في هذه التشكيلات "الكنيسة والجيش" كجمهورين اصطناعيين يقوم تلاحمهما على إكراه خارجي، حيث ينخرط الفرد في جمهور من هذا النوع دون أخذ مشورته مسبقاً.

وهذان النوعان من الجماهير يخضعان لنوعين من الروابط الوجدانية كالروابط التي تربط الأفراد بالرئيس، وتلك التي تربط الأفراد بعضهم ببعض، علماً أن الروابط الأولى تبدو أكثر أهمية بالنسبة إلى الأفراد أنفسهم على الأقل. ويرى فرويد أن ثمة أموراً كثيرة قد تستوجب الدراسة والتحليل فيما يتعلق ببنية الجماهير، حيث إن اجتماع بعض الناس لا يمثل جمهوراً ما لم تتكون بينهم تلك الروابط المذكورة، لكن لا بدّ من الإقرار بأن أي اجتماع للناس يظهر ميلاً قوياً إلى التحول إلى جمهور نفسي.

ويشير فرويد إلى أن الروابط العاطفية العديدة التي يتسم بها الجمهور تكفي لتفسير انعدام الاستقلال والمبادهة لدى الفرد، وتماثل ردود أفعاله مع ردود أفعال سائر الأفراد الذين يتألف منهم الجمهور، وهبوطه إلى مستوى وحدة من وحدات الجمهور. غير أن هذا الجمهور منظوراً إليه في جملته يشتمل على سمات أخرى كانحطاط النشاط الفكري، ودرجة زائدة من العاطفية، وعجز عن الاعتدال وعن ضبط النفس، والميل إلى تجاوز الحدود في التظاهرات العاطفية، وإعطاء متنفس لهذه التظاهرات بالمبادرة إلى الفعل، كلها تمثل بلا أدنى شك نكوصاً في النشاط النفسي نحو طور سابق لا يدهشنا أن نلتقيه لدى الطفل ولدى المتوحش، ومثل هذا النكوص يميز بوجه خاص الجماهير العادية، بينما تتقلص السمات النكوصية تقلصاً مرموقاً لدى الجماهير المتصفة بدرجة متقدمة من التنظيم.

----

الكتاب: علم نفس الجماهير

الكاتب: سيغموند فرويد

ترجمة: جورج طرابيشي

الناشر: دار الطليعة، بيروت