"جوارب كريب فنلندية، حذاء نصفي نخبوي، بزة لائقة مزدوجة الصدر، حزام ضابط، سترة فرناند ايجيه، قميص بوبلين، قبعة شتوية، وقفازات سائق". ثمانية أغراض بالية، وأمست اليوم عتيقة، وليس من حاجة لها، كان سيرغي دوفلاتوف قد وضبّها في حقيبةٍ لا تقلُّ هي الأخرى اهتراءً عن محتوياتها، ولأنّ أقفالها خرجت عن الخدمة، فقد اضطرّ صاحبها، أن يلفها بحبل قديم.

هذا "الكنز" من الأغراض، سيقع بين يدي سيرغي دوتلاف بعد خمس سنوات من اعترابه، وهجرته من بلده الأصلي من مدينة لينينغراد - بطرسبورغ، إلى نيويورك في الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك بعد لم شمل العائلة وعبث ابنه بالحقيبة ومحتوياتها. وهو الأمر الذي فتح كلّ أدراج الذاكرة لمدة تُقارب الثلاثة عقود قضاها سيرغي في وطنه الأم – الاتحاد السوفييتي السابق؛ حيث خلف كلُّ غرضٍ من أغراض الحقيبة، قصةً طويلة. ومع الإيحاء أنّ كلّ قصةٍ وكل غرض من هذه الأغراض تختلف عن قصة الأغراض الأخرى، غير أن دمج تلك الحكايات معاً في سردية واحدة، ليُسجّل من خلالها حكاية وطن كامل في زمن الاتحاد السوفييتي من وجهة نظر تؤكد حتمية الخاتمة والنهايات الذي آل إليها هذا "الاتحاد"، حيث الحقيبة ومحتوياتها كان لها المُعادل الإنساني من اقتصاد وسياسة وحالة اجتماعية، وحرية تعبير وغيرها.

لكن من هو سيرغي دوفلاتوف هذا وما حكايته. سيرغي دوفلاتوف، هو الذي اختاره الروائي الروسي سيرغي دوفلاتوف (1941 - 1990) – هنا ليس ثمة خطأ في تكرار الأسماء – ليكون الراوي السارد لروايته (الحقيبة) التي تتألف فصولها من عناوين حملت أسماء محتويات الحقيبة التي تحدثنا عنها في مقدمة هذا المقال، والتي كانت ذريعة سيرغي دوفلاتوف لكتابة هذه الرواية.

إذاً؛ هل هي راوية تدخل ضمن إطار أدب السيرة الذاتية؟

والجواب: ذلك ما أراد أن يوحي به الكاتب، لكن كان ذلك ليس أكثر من لعبة فنية ستزيد مما سنتحدّث عنه في جماليّات هذه الرواية التي تبدو مفارقة للكثير من النتاج الروائي الروسي وحتى العالمي من خلال مستويات كثيرة، ليس أولها الباعث لكتابة الرواية – أغراض الحقيبة التي خرجت عن مهماتها في الاستخدام، وليس ثانيها اللغة المُخاتلة التي تُحيّر المتلقي في وجهيها: السخرية والتهكم الشديد الذي يصل حدود الملهاة، والوجه الآخر الذي يصل ذُرى التراجيديا.

اللافت في كاتب هذه الروية الذي أطلق اسمه على أحد الشوارع في مدينة نيويورك، وما يوحي بالحفاوة الأمريكية التي تغمز بـ"انشقاق" هذا الروائي عن نظام بلده الأم – الاتحاد السوفييتي. غير أنّ ذلك لا يعدو بدوره مُخاتلة، أو ربما أقرب إلى "المواربة" التي اعتمدها كثيراً سيرغي دوفلاتوف في رواية الحقيبة، فهذا الكاتب الذي عُرف عنه إنه لم يكتب باللغة الإنكليزية أبداً، كما أنه لم يندمج في الثقافة الأمريكية، ويُحكى أنه حافظ على نوعٍ من المسافة مع بلده المضيف، فيما نُقل عن لسانه: "أعلم أن أمريكا ليست جنّة، وقد تبيّن لي أن ثمة كلّ شيء هنا السيئ والجيد ، لأنّ الحرية ليس لها أيديولوجيا. فهي تتيحُ المجال على قدم المساواة لكلٍّ من الخير والشر". ويُضيف: الحرية مثل القمر يضيء الطريق للمفترس والضحية. وفي المُقابل الروسي، فإن روايات سيرغي دوفلاتوف؛ يُحتفى بها وتُدرّس في مختلف مناهج التعليم في روسيا، وفي مختلف الملتقيات الأدبية والثقافية. فيما يستهل سيرغي دوفلاتوف كلمة الشاعر الروسي الكلاسيكي ألكسندر بلوك: "روسيا يا بلدي، أنت الآن أعزّ عندي من كل البلدان" حيث يصف بدقة موقف الشخصية الرئيسة والمؤلف نفسه من بلده روسيا في ظل النظام السوفييتي. فهو يحبّ بلده حباً جماً، ولكنه في الوقت نفسه لا يُطيق الواقع السوفييتي العبثي. "روسيا يا بلدي، أنت كما الآن أعزّ عندي من كلِّ البلدان".

وبالعودة إلى الرواية، فمن جهة الشخصيّات يظهر الرواي السارد والذي كما أسلفنا منحه الكاتب اسمه ليوحي بواقعية الرواية، وبأنها لا تبتعد أن تكون سيرة ذاتية للكاتب نفسه، وهو كثيراً ما يُضمنها في تأكيده على ما تقدم الكثير من الحوادث التي حصلت معه شخصيّاً، غير أنّ الرواية وإن كانت تقوم على الواقعية المُفرطة لكنها تركت مسافةً شاسعة في أن تكون تسجيلية، وإن كانت لا تبخلُ في التوثيق لمن يُريد أن يقرأ ذلك في بعض وجوهها، غير أن اللغة التي وصفت بأنها تُقارب الشعر، وكذلك لغة التهكم العالية التي توحي أنها تأتي دون قصدية، بل عفو خاطر السرد والتداعي رفعت من مستوى هذه الرواية لتصل سويّات الأدب العالي، فالسخرية هنا شكلت تحديّاً إبداعيّاً نادراً قلما وجد في الرواية بشكلٍ عام، ربما نجده متوفراً في المسرح والشعر والقصة، غير أنه في الرواية كثيراً ما يأتي على شكل نثرات مبثوثة على لسان الشخصيّات أو خلال الوصف. أما في رواية الحقيبة، فإنّ التهكم بدأ من الصفحة الأولى وحتى الخواتيم، لكنها السخرية التي يعدّها الكثيرون على أنها أفضل طريقة لإصلاح العالم من أخطائه.

في مقدمة الرواية، وفي مشهد وجود الراوي في إدارة الجوازات؛ يذكر: تقول لي هذه الكلبة – يقصد الموظفة – يحقُّ لكلَّ مُهاجر أن يصطحب معه ثلاث حقائب فقط. هذه هي القاعدة المعمول بها.

غير أنه يحتج بغضبٍ كبيرٍ، ويدخل في مُحاججة طويلة مع الموظفة، مع أنه لا يحمل سوى حقيبة واحدة، بمعنى السخرية في سياق الرواية كانت شاملة إلى الدرجة التي لم يوفر فيها حتى نفسه.

من تلك المقدمة وفي ختامها يذكر: "حين كنتُ تلميذاً، أحببت أن أرسم صور قادة البروليتاريا العالمية، ولا سيما صورة ماركس. رسوماتي كانت لطخات شبيهة بصورهم بالفعل. نظرتُ إلى الحقيبة الفارغة؛ ماركس في القاع، وبرودسكي على الغطاء، وبينهما حياة وحيدة ضائعة لا تُقدّر بثمن".

هذه السخرية العالية التي يصفها مُترجم الرواية الدكتور جودت هوشيار في مقدمته: تبدو الرواية مرحة وفكاهية، تُثير الضحك للوهلة الأولى، ولكنها ضحكٌ كالبكاء، والقارئ يُدرك أنّ المواقف المضحكة والكوميدية الموصوفة في الرواية ليست مُضحكة حقاً، إذ لا يمكن لجميع الناس التعامل مع ظروف مثل هذا الواقع غير المنطقي.

وهو الأمر الذي يبدو أنه كان غاية الكاتب في إظهاره، أي عبثية الواقع غير المنطقي الذي يصل إلى تعقيد حياة الناس في حالةٍ مُريبة من العدمية، والقرارات البيروقراطية المعطلة لحياة البشر وذلك من خلال إدخالهم في دوامات من الجحيم، وهو ما استدعى مبدأ "شرُّ البليّة ما يُضحك" لتصوير مثل هذه العبثية الذي قاربت لا منطقية الواقع.

----

الكتاب: الحقيبة

الكاتب: سيرغي دوفلاتوف

ترجمة: د.جودت هوشيار

الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب