في مسألة التفريق بين التراث والتاريخ، يُمكن للدارس أن يجد الكثير من الافتراق، حتى يكادان أن يكونا نقيضين لبعضهما رغم كل ما في بينهما من اشتباك. وربما أكثر ما يُمكن تمييز أحدهما عن الآخر.

إن التاريخ يجب أن يُسجل الأحداث والوقائع بكلّ موضوعية، وكما جرت إن كانت ناصعة، أم مُخزية، يقوم بذلك باحثون ومؤرخون على جانب كبير من الموضوعية. أما التراث؛ فغالباً هو الذي تُسجله مشاعر فطرية، ويكون تدوينه غالباً عفو الخاطر، ولا يُركز سوى على الناصع من الوقائع والأحداث، يأتي ذلك بمظاهر مختلفة، باللباس أو الأغنية، وحتى بالحكايا الشعبية، بمعنى بالتراث المادي المحسوس باليد والحواس كلها، أو بالتراث اللامادي الشفاهي الذي يُطرب له بالأغنية وسواها.

عن تلك الكنوز التي غالباً ما تضيع في غياهب النسيان، تسعى الباحثة فريال سليمة الشويكي للكشف عن هذا التراث المنسي وتدوينه وإعادة الحياة إلى عالم يكاد يندثر أو يضيع، أو هو قاب قوسين من ذلك، صدر كتاب بعنوان "كنوز منسية، تراثنا الساحلي الريفي". وهذا الكتاب للباحثة الشويكي يأتي بعد سلسلة كتب توثيقية للتراث السوري بلغت ستة كتب منها: الزمن السعيد، البحر الثالث، وغيرهما. وفي الكتاب تكشف الشويكي عن الكثير من هذه الميثولوجيا الحميمية التي تأتي حارة ودافئة على الذاكرة السورية لما تكشفه من قصص وحكايات تبدو تاريخاً جلياً لناس المكان من وقائع حب وشجن وفقر وغير ذلك؛ تاريخ حافل سجتله الذاكرة الريفية من حكايا الأيام والشهور والطقس. باختصار يأتي الكتاب كموسوعة يُسجل كل ذلك التاريخ على مدى أكثر من قرن ونيف، وأحياناً يمتد بعيداً إلى ما قبل الميلاد بمختلف مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية وقليلاً السياسية.

تسعى الكاتبة لنقل هذا الإرث كما دونتّه ذاكرة الناس، والذي يكون أغنية فرح، أو مقولة توجز حادثة مرت يتناقلها الناس في حياتهم، أو مقطوعة شعرية تصف ثياب الناس وأزياءهم، وما طرأ عليها من تبديل، أو مقولة موزونة تنوب عن دروس عديدة في الحياة، أو أمثال اختزلت حوادث الدهر، ومعاناة الإنسان وتجاربه ونظرته إلى الحياة بكلمات لها ديمومتها، وقد يكون الموروث حكاية لتكون عبرة لطيفة، أو موالاً حزيناً يترجم معاناة ما، وغالباً ما ينطلق على لسان امرأة التي كانت تجد لها مُتنفساً في أغاني الحزن.

التراث هنا أشبه بمستودع الأفكار يتضمن معارف الأولين، ونتاج تجاربهم الطويلة التي تُقدم المختصر المفيد، ونظرة خبيرة في أمور الطقس، والكون، والزراعة، والمرض، والفلسفة. يأتي كل ذلك بمشهدية، وكأن عين كاميرا تبث صورها من زمن بعيد. تراث يؤرخ بصمت، ودونما قصد، أو طلب من أحد لكلّ ما جرى، ومن هنا تبدو الموضوعية في التدوين بعكس ما يسجله المؤرخون تحت هوى معين وبطلب من "منتصر" أراد غالباً أن يُقدم حججاً كاذبة.

وحتى لا نُبقي الحديث في العام؛ أحب أن ألفت الانتباه لأكثر من فصلٍ في هذا الكتاب لما له في الذاكرة الجمعية من حرارة غالباً ما ولدّت ما يُشبه الهوية السورية، أو على الأقل شكلت أحدى ملامحها. منها مثلاً الأيام والأشهر وما قيل عنها، وحكايا الأغاني. أقول إنّ مثل هذا التراث شكل ملمح هوية خاصة بسورية، وإن اتسعت هذه الهوية لتشمل بلاد الشام كلها، وحتى بلاد الرافدين أحياناً، مقولات وحكايا وأغان تعود في جذورها البعيدة إلى الأرض السورية العتيقة، سورية الهلنستية والآرامية والأوغاريتية التي كانت في زمنٍ بعيد منارة للعالم وهي تُماهي بين إرثين أو ثقافتين عظيمتين الإغريقية والفينيقية في بوتقة سورية واحدة.

فالسبت نبت، بمعنى أنه يصلح للزرع، والأحد لحد؛ أي أن من يقوم بمشروع ما، ينتهي إلى اللحد. وغير ذلك من مقولات التشجيع أو الإحباط أو التطيّر أحياناً. والجميل في الأمر ما تسجله الذاكرة من أغانٍ تُثبت هذه المقولات الموجزة. منها مثلاً مقدمة أغنية يا أم ردانا:

"عيوش خدّك لمعة

قنديل بوسطو شمعة

محلا الصلاة الجمعة

بأول رمضانا"

ومثل أغنية "أم ردانا" الكثير من الدلعونا واللالا والهوارة، وهي جميعها قوالب غنائية ريفية شكلت حاملاً وفضاء سردياً لتسجيل حوادث الطقس، أو قصص عشاق، وأحياناً تُكرس لتكون أغاني المواسم. وهكذا في وصف الشهور وأحوالها، التي خبرها ابن المنطقة حتى كاد أن يعرف ماذا سيحدث في كلّ يوم من الشهر، فأنجز لذلك مثلاً أو مقولة وحتى أغنية يختزل فيها ما سيجري في ذلك اليوم، وما على اللبيب سوى أخذ الحيطة والحذر من "قيضة أو فيضة" أو عوز. أي أما قيظ شديد، أو فيضان جارف.

وأختم بحكاية موال العتابا، والتي أسمعها للمرة الأولى في هذا الكتاب، وكنت قد عرفتها من مصادر أخرى برواية مختلفة، وإن كانت ليست بعيدة عن ذلك، فهنا ثمة امرأة اسمها "عتاب" زوجة راعي وفي رواية أخرى زوجة فلاح، في الرواية الأولى تراود شقيق الراعي "حبيب" وفي الثانية يخطفها البيك، في الأولى يقتل الفلاح شقيقه تماماً كما حصل بين قابيل وهابيل، ثم ليعيش حياته ندماً يُغني العتابا الحزينة، وفي الثانية يهيمُ على وجهه خيبة كما جرى لجده العاشق قيس بن الملوح.

"عتابا عتبت بالي وأنا صغير

وكسرت غصن بستاني وأنا صغير

يا ربي لا تموّتني وأنا صغير

تا يشيب النسر ويبيض الغراب."

----

الكتاب: كنوز منسية، تراثنا الساحلي الريفي

الكاتب: فريال سليمة الشويكي

الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب