وإن تكثف اسمها على مدينة دمشق، كما تكثف اسم مصر على مدينة القاهرة، غير إن هذه المنطقة التي يدعوها العرب "بلاد الشام" أثبتت امتداد حضارةٍ موغلة في القدم على مدى التاريخ، وهي حضارة من سماتها أنها مترابطة عضوياً على الامتداد الجغرافي، وهي متكاملة أيضاً.

وإن تكثف اسم الشام على مدينة دمشق، غير أنها تاريخياً عرفت امتداداً حضارياً وجغرافياً من سيناء جنوباً، وحتى جبال الأمانوس شمالاً. وكان إطلاق "الشام" على هذه الجغرافيا نسبةً لسكان الشمال بالنسبة إلى سكان الجنوب الذين كانوا ولا يزالون يطلق عليهم اليمانيون، وهذا يُخالف الإيحاء الذي سعت إليه الكتب التاريخية طول الوقت، وكأن الجزيرة العربية كانت "المفرخة" البشرية طول الوقت للهجرات في كلِّ الاتجاهات، الأمر الذي يوحي أيضاً، وكأن بلاد الشام كانت مناطق شاغرة. والحقيقة أن السومريين كانوا الشعب الأقدم في بلاد الرافدين، والعموريون والفينيقيون كانوا الأقدم في بلاد الشام قبل أن تُغزى هذه البلاد من جيوشٍ شعوب مختلفة، ذلك أن قدر هذه الجغرافيا كان عرضةً للتقلص والنهش من الأطراف طول الوقت. غير أنه طول الوقت أيضاً كان يتوفر للجغرافيا الشامية من يسعى لتوحيدها، ومن ثمّ انبعاثها من جديد، تماماً كطائرها الفينيقي الذي ينتفض من رماده بعد كلِّ احتراق.

تراث هذه "الشامية" العتيق التي عرفت إنسان النياندرتال منذ العصور الحجرية، يلاحقه الدكتور عفيف بهنسي في كتابه "التراث الأثري السوري" ليس في الحواضر السورية وحسب، بل تابع ملامح التراث السوري الذي أغنى السواحل المتوسطية، وأوروبا، وتحديداً في العمارة الرومانية بمدينة روما وغيرها من مدن الإمبرطورية الرومانية.

وبالنسبة إلى جمالية التراث السوري القديم، يُركز الباحث على جمالية النحت من خلال دراسة التماثيل الكاملة. والمبدأ الأساسي في تحديد جمالية هذا الفن، هو تمثيل الهيئات المنحوتة، وكأنها تنظر إلى الأمام بعينين جامدتين، ويبدو الجسم ساكناً ثابتاً لا مجال لحركة فيه، ولا تخلو الوجوه من التعابير عن السعادة ممثلةً بابتسامةٍ هادئة جذابة، كما طليت بعض التماثيل بالألوان مع تطعيمات وتنزيلات من اللازورد والصدف ومع اهتمام في إبراز الشعر، وقد أحسن ترتيبه وتزيينه كما في مكتشفات إيبلا مع نقوش على أكتاف أصحاب التماثيل ساعدت في التعرف على صاحب التمثال والغرض من إعداده.

على أن الطابع الرمزي الواقعي والتعبيري الذي بدا واضحاً في فنون ماري وإيبلا، نراه في أوغاريت، وقد بدأ أكثر واقعيةً، وأكثر تمثيلاً لموضوعه، بدا ذلك في تماثيل الحيوانات وفي صور النقوش البارزة، وفي تمثال مغنية المعبد والرأس العاجي. ولا بدّ من الإشارة إلى اهتمام الفنان بالمواضيع المركبة سواء كانت دينية أو تاريخية.

كما يعتبر الدكتور بهنسي الزخارف التي كانت تُزيّن الأواني المكتشفة في ماري الأنموذج الأول والأقدم لما نُسميه اليوم بالرقش إضافةً للكثير من جماليات الحلي والنسيج والزجاج والفخار والمعدن. ويُخصص الباحث الفصل السابع من الكتاب لتراث الساحل السوري، ويُفصّل في حضارة أوغاريت التي ابتدأ التنقيب فيها منذ عام 1929، حيث تظهر لنا أوغاريت مدينة ثقافية متقدمة لا سيما في ابتكارها الكتابة المسمارية بأحرفٍ أبجدية، وفيها اكتشفت مجموعة من الأختام الأسطوانية التي تعود لنهاية القرن الرابع عشر. كما تعود إلى منتصف الألف الثاني قبل الميلاد، تلك التماثيل الرائعة التي تمّ اكتشافها في أوغاريت. يُشار هنا أن "فينيقوس" تسمية مستمدة من اللون الأرجواني أطلقها الإغريق على السوريين الذين انتشروا على امتداد شطآن الأرجوان من أنطاكيا وحتى اللاذقية أو "راميثا" ثمّ إلى جبيل وصور وعكا. أما في عمريت جنوبي طرطوس، فقد أنشأها سكان جزيرة أرواد، وأهم آثارها المعبد والملعب والمدافن والمغازل، وبرج البزاق.

وأما عن تأثير التراث السوري في الغرب، فيعود إلى عهودٍ موغلة في القدم. وهنا يُشار إلى الأبجدية التي ابتكرها السوريون ونقلوها إلى الغرب، فقد ابتدأت الكتابة في سورية في القرن الثالث والعشرين ق. م، وفي سنة 1933 عُثر في رأس شمرا على رقيم صغير الحجم يحوي عدداً من الصيغ المسمارية وعددها اثنان وعشرون شكلاً، تبيّن بعد الدراسة أنها حروف أبجدية لم يعرف لها نظير، ثم تأكد لهم أنها الأولى في التاريخ، وأنها ترجع إلى منتصف الألف الثاني قبل الميلاد. كما تمّ العثور على أبجدية أخرى في جبيل وعددها ثلاثون شكلاً ترجع إلى القرن العاشر قبل الميلاد. وكانت حكاية الأميرة السورية أوروبّا بنت أجنيور ملك صور وصيدا وأمها ليبيا واختطافها من قبل رب الأرباب زيوس إلى بلاد الإغريق، ومن ثم بحث أخيها قدموس عنها والذي في طريقه نشر الثقافة الفينيقية في تلك البلاد. كما تجدر الإشارة إلى أنه ليس من مؤرخٍ روماني أو مختص بتاريخ الرومان لا يضع أسرة سيفيروس في بداية حديثه عن أباطرة روما السوريين الذين لعبوا دوراً هاماً في تدعيم الإمبراطورية وفي توسيع انتشارها وتعديل قوانينها، ثمّ في تدعيم المسيحية الأولى وإحلالها محل الوثنية. ومن الشخصيات السورية التي كان لها تأثيرها الواضح في الحضارة الرومانية: جوليا دومنا وشقيقتها وبناتهما وأبناؤهما أنطونيوس وكاراكالا، وفيليب العربي، وأبولودور، وغيرهم الكثير.

كانت الأهمية الاستراتيجية لموقع سورية، أن جعلتها مليئة بالمدن العامرة والحواضر التي لعبت دوراً حضارياً كبيراً منذ العصور التاريخية القديمة، ومازالت الحفريات الأثرية في أحواض الفرات والخابور والعاصي، وحول المدن الكبرى، وفي الساحل والجنوب تكشفُ عن حواضر قديمة حددت بدايات التاريخ والحضارة الإنسانية على هذه الأرض.

----

الكتاب: التراث الأثري السوري

الكاتب: الدكتور عفيف البهنسي

الناشر: الهيئة العامة السوريّة للكتاب