يتابع الناقد العراقي حاتم الصكر القصيدة العربية الحديثة في مشهدٍ بانورامي على مدى ما يزيد على النصف قرن، وتحديداً منذ أربعينيات القرن الماضي، مُسجلاً لحظات الحداثة في افتراقها عن الماضي التراثي والتقليدي، وتحولاتها، وتشابكها، وتعالقها مع السياسي، والأسطورة، وأكثر من معطى آخر، مركزاً على الكثير من شواغل القصيدة الحديثة، المنفى، الوطن، الجسد، القارئ، الجمهور، والقصيدة والمهمات الجمالية. بعد ذلك يُسهبُ في عرض نماذج تطبيقية لإشكالات القصيدة المعاصرة.

في كتابه "نقد الحداثة – قراءة استعادية في الخطاب النقدي" يلتقط الصكر خلال مسيرة تطور هذه القصيدة ثلاث لحظات حداثوية، شكّلت منعطفات هامة في ظهور القصيدة العربية الحديثة، وذلك بعد الملل الذي أصابها من تكرار الوزن، وتكرار القافية، واستنفاد إيقاعاتها الغنائية، والجمالية منذ زمن بعيد. فكانت حداثة الرواد منتصف الأربعينيات، والتي أطلق عليها المشروع التجديدي، الذي مثّله مقترح القصيدة الحرة، وفيما بعد وصف بقصيدة التفعيلة. وتمثلت اللحظة الثانية بمقترح قصيدة النثر، وبعد عدة عقود ظهرت الكتابة الجديدة القائمة على النص، وما بين يوم (القديم) ويوم (الجديد) الأخير الذي سيغدو قديماً، تنجز الحداثة برنامجها النصي الذي غالباً ما يكون تجريبياً أو اختيارياً، وعلينا كقراء أن نُنظم المقروء النصي للتعرف على هوية الخطاب الحديث ومقترحاته. وهكذا تتكون أطياف شعرية وملامح جديدة تنمو وتتبلور بما نمنحه لها من هواء ضروري -على ما يرى الصكر- وزوايا نظر جديدة بمستوى ما تتطلبه قراءة هذا المنجز من دون أن تزهدنا به حداثته أو مغايرته، انطلاقاً من القناعة بوجود الخط التطوري ونقاطه ومفاصله وانحناءاته، ومن القناعة بضرورة مُخالفة مساره والتقاطع مع ثوابته، استجابةً للمتغيرات المحيطة، وهنا يصل الناقد إلى لحظة المراجعة والتقييم التي دعتنا إليها مناسبة الدخول في الألفية الجديدة والتوغل فيها.

يرى الصكر أنّ دراسة الرواد وثقافتهم كانت مُنفتحة على نص الآخر في لغته الأصلية، مدفوعين بعوامل سياسية وإنسانية سمحت برؤية النص عبر لغته الأصلية، وما ترجم إليها من لغات أخرى، وهكذا تعرف الرواد على قصائد وأشعار شكسبير، ولوركا، وناظم حكمت، فحفزهم ذلك كما تقول نصوصهم لتحريك الإطار الإيقاعي واللغوي والصوري والدلالي والقوافي. واصطلحوا على ذلك بالقصيدة الحرة، وسوف يتآزر وعيهم – الرواد- بعصرهم سياسياً واجتماعياً بالقياس إلى اللحظة التاريخية التي عاشوها مع تبدّل لغة الشعر وإيقاعه بالضرورة، احتكاماً على تغير إيقاع الحياة العربية مما خلق أو هيأ لظهور وعي جديد بدور اللغة والإيقاع تحديداً، مع بقاء الموضوعات كما كانت عليه، وتلك نقطة الاختراق في مشروعهم الشعري، ونقطة التقائهم بمشروع الحداثة الشاملة.

إذاً، ومن وجهة الصكر، كان مجهود الرواد وفقاً لتلك القراءة التي اتجهت إلى الخطاب الشعري لا النصوص، مجهوداً أولياً له فضيلة التأشير واقتراح إمكان التحديث، والإيغال في مغامرته مما مهّد للأجيال الشعرية اللاحقة أرضاً خصبة ستثمر في لحظات الحداثة التالية التي انبعثت عن لحظة الرواد التحديثية.

إنّ قارئ قصيدة النثر هو المطلوب وجوده بالقوة التي ظهرت فيها القصيدة والحساسية ذاتها على سبيل المثال، قصيدة النثر أنموذج واحد اليوم يكرر كتابته شعراء متعددون نظراً لتشابه زوايا الخطاب والموضوعات والعبارات أحياناً في أكثر من وقفة خلال مراحل تطورها قبل أن تصل إلى الكتابة الجديدة، ومن ثمّ انتشارها أفقياً، وكان أن غاب "الفحول" من الشعراء لصالح قصيدة أقرب إلى العارض اليومي. وهذا ما حدا بأدونيس للتراجع – ربما- عن مصطلح قصيدة النثر لصالح مصطلح (كتابة الشعر بالنثر) لقد كان جبران في كتاباته النثرية الإشراقية أحد مراجع قصيدة النثر، كما أن الكتابات الصوفية والإشراقية في التراث العربي هي مرجع آخر مهم لها، كان على كاتب قصيدة النثر وقارئها معاً التعامل معها كونها حالة جديدة، وذلك بجعلها على مبعدةٍ من النثر الشعري والشعر المنثور، وقصيدة التفعيلة، فهي لا تخضع لقواعد جاهزة كالأنواع الأخرى، وإنما لقوانين مستخلصة شيئاً فشيئاً من النصوص. واليوم فإنّ قصيدة النثر هي قصيدة المرحلة الراهنة في ألفيتنا الجديدة.

الحداثة لا تُستخدم اصطلاحاً للدلالة على المعنى الزماني مادامت ذات اشتراطات فنية. من هنا يصبح انتماء نصوص أي عصر إلى الحداثة ممكناً بوجود تلك الاشتراطات، كما يصبح ممكناً سلب تلك الصفة من نصوص معاصرة لنا. وحول علاقة النصوص الحديثة بالواقع، فيرى شعراء اليوم أنّ ثمة مصالحة بين الواقع والفن، والحل هو افتراض وجود آخر للواقع عميق ومتخفٍّ، أوسع وأشمل، فلا بد من الوصول إليه بأدوات حداثية هذه المرة: الحلم والمخيلة.

----

الكتاب: نقد الحداثة – قراءة استعادية في الخطاب النقدي

الكاتب: حاتم الصكر

الناشر: دار أورفة