بين مسرحية (القدر يحكُّ رأسه) التي كتبها الأديب وليد إخلاصي سنة 1959، ومسرحية (البحث عن نمرود) التي كتبها سنة 2007، بين هذين التاريخين تُحصي الناقدة علياء الداية لإخلاصي سبعاً وأربعين نصاً مسرحياً، هذا النتاج المسرحي الثّر لإخلاصي في الكتابة المسرحية قامت برصده الداية من خلال تحديد استعمالات الكاتب لـ "الرموز الأسطورية" في نصه المسرحي.

في كتابها "الرموز الأسطورية في مسرح وليد إخلاصي – دراسة مقارنة" لاحقت الكاتبة علياء الداية وعلى مدى أكثر من مئتين وثلاثين صفحة: الجميل، والجليل، والقبيح، والمعذب في تفاصيل هذا المسرح، وذلك بهدف دراسة القيم الجمالية في هذه المسرحيات، التي رأتها متجليةً في رموز الطائر والأفعى والحديقة والغابة والكهف. دراسة جمالية تضع في الحسبان أنّ الرموز تندرج أسطورياً ضمن الأنماط البدئية، لا سيما وأنّ النتاج المسرحي لإخلاصي حافل بالإشارات الأسطورية، التي تدخل تلقائياً في مضمون الخافية الجمعية.

بالنسبة إلى الرموز الأسطورية الجميلة التي وجدت الكاتبة أنّ إخلاصي جسدها برمزين هما الطائر، والحديقة الجميلين، وترى أنّ الطيور تلقي بظلالها على مسرح وليد إخلاصي، التي يجعلها في بعض نصوصه المسرحية تقوم بدور الشخصية الرئيسية في المسرحية، مُحمّلاً هذا الرمز الكثير من الحمولات الدلالية، فهو الفينيق الذي ينهض من الرماد، وهو الهدهد المسافر إلى الغياب، فيما تظهر الحمامة رمزاً للنجاة، وفي بعض المسرحيات ثمة إشارة إلى طائر لا وجود له داخل النص، لكن الأحداث تؤكد وتُشير إليه، هذه الطيور التي يضعها إخلاصي في نصوصه، ليس لحبسها داخل أقفاص النص، وإنما لتجعلها تُحلق في سماوات النص فتغنيه بالرموز، والدلالات، بحيث يصير الكلام العادي جميلاً، وهذه هي مهمة الفن، وتحديداً الأدب. وهذا ما ظهر لإخلاصي في الطائر وقيمة الحياة، فهو رمز الحرية، وكثير من مسرحياته يفتح الأفق أمام المستقبل، كما في "صرعة العندليب، ويوم أسقطنا الوهم، ومرثية للطير الغائب" وغيرها.

والطيور كذلك كما هي إشارات تفاؤل، هي أيضاً نذير شؤم، كالتي تظهر ليلاً، وكما ثمة الهدهد والعندليب، هناك أيضاً الغراب، والبوم، وهناك طيور الوهم كذلك، وما بين هذا وذاك الكثير من المشاعر المتناقضة التي تولدها هذه الرموز. فيما ترد رموز الحديقة والبساتين لتوحي بالانطباع الطاغي بالخصب والعطاء المرادفين للحياة، بما يُشكّل قيمة الجميل والرخاء اللذين من شأنهما دعم استقرار الإنسان، وتأتي في مسرح إخلاصي لتوحي بالجنة، هناك حيث عاش الإنسان بعيداً عن التناقضات، وتأتي لتدل على حمام البراءة، والمطلق، قبل أن يُجرّب الإنسان آلام الأرض.

ومن الرموز الجميلة في مسرح إخلاصي تنتقل الكاتبة إلى الجليل، الذي تراه في الامتداد الذي يوحي باللانهاية، وهو على خلاف الجميل الذي له أبعاد واضحة، فكثرت في هذه النصوص رموز "الشجرة الجليلة" بوصفها مصدراً للقوة، وبوصفها محوراً للزمن، الأمر الذي يفتح من هذا الرمز أبواباً للتأويلات، الذي يزيد في غنى النص، كما تتعدد قراءاته، ويزيد من جمالياته المجازية.

في مقابل هذه الرموز الجميلة والجليلة، تتابع الكاتبة الرموز القبيحة، ذلك أن القبح من أكثر المفاهيم الجمالية وضوحاً، وهو لا يخرج من المنظومة الجمالية، بل هو ظاهرة طبيعية، وسلوكية اجتماعية لا يمكن إنكار تأثيراتها في قيمة الجميل نفسها. وأما قيمة القبح في الحياة الاجتماعية فمردها إلى سلوك الإنسان نفسه، من حيث تحقيقه وظيفته في الحياة بين غيره من الناس، وتقديم المنفعة لهم من خلال العمل، وهذا ما هو مصوغ في المثل الأعلى الجمالي.

وكما أفعم إخلاصي نصه بالطيور والأشجار، كذلك "حشد" في تفاصيله الكثير من الأفاعي والغابات القبيحة، الأولى بما لها من دلالات تتناسب مع ما أثاره الإنسان حولها من تصورات، وأساطير، وعلى هذا فإنّ الأفعى تحملُ في ذاتها معنى هو الأسر والانجذاب للحياة، من حكايا خلود، وبقاء، وتجدد، وخطيئة، والتذكير بضعف الإنسان تجاه الموت، على هذه الشاكلة من الصور ظهرت الحيّة في مسرحيات مثل "طبول الإعدام العشرة، الليلة نلعب، السماح على إيقاع الجيرك، الصراط، ومن يقتل الأرملة"، كما أن الكثير من مسرحيات إخلاصي يعطي الانطباع بأن الحياة إنما هي غابة يعاني فيها الضعيف من سطوة القوي، فلا يكون له إلا التسليم بقانون الغابة، أو الاحتيال عليه بالدخول في منظومته، كما في مسرحية "الديب، والسماح على إيقاع الجيرك" وقد نوّع على مفهوم الغابة كحقيقة ومجاز، واغتراب نفسي، وغير ذلك.

وتأتي الداية بالتناول على "المُعذّب في مسرح وليد إخلاصي" وذلك بوصفه مفهوماً يسبقُ معرفتنا إياه على أنه قيمة فنية، أو جماليةً، وموضوع هذا المعذّب هو الإنسان بالطبع، بما يجعل هذا المفهوم مختلفاً عن غيره من المفاهيم الجمالية، كالجميل والجليل والقبيح، التي موضوعها العلاقة بين الإنسان والطبيعة، ولهذا ستكثر رموز "الكهف" بوصفه مصدراً للعذاب في هذا المسرح، وما يتفرع عنه من رموز "القبر، الملجأ، الذكريات، غرفة المنزل، والسجن"، ذلك أن شخصية المعذّب تختلف عن التراجيدي رغم أننا نتعاطف مع الاثنتين، ولكننا نحمل لوماً للمعذّب على تخاذله، وبما يُحيل الكهف إلى مكانٍ مغلق، ينطوي فيه الإنسان على نفسه، ويبتعد عن الواقع الخارجي، ليعيد ولادة ذاته من جديد، وهذا ما برز في مسرحيات: "مقام إبراهيم وصفية، البكاء في غياب القمر، وغيرها الكثير من المسرحيات".

----

الكتاب: الرموز الأسطورية في مسرح وليد إخلاصي – دراسة مقارنة

الكاتب: د. علياء الداية

الناشر: دار الحوار - اللاذقية