"كلمات.. كلمات.. كلمات" هذا ما يقوله هاملت في مسرحية شكسبير الشهيرة. أمّا في السينما، فالاستغناء عن الكثيرٍ من الكلمات هو من مميزات الفيلم الناجح. رغم ضرورة وضوح الفعل الدرامي، فالسينما ليست فنّ حوار، كما هو الأمر في المسرح والتلفزيون، بل هي فنّ رواية قصة بواسطة الصور.

تتطلب صناعة السينما الناجحة – على ما يرى الناقد رياض عصمت في كتابه الخيال السينمائي- قصصاً جيدة، أفعالاً درامية، تدعمها مُخيلة واسعة وتقنية عالية. عندما يُحقق المخرج توازناً بين الشكل والمضمون، ويُزواج بين الجمالية والجماهيرية، ويُقارب الواقع بشاعرية، فإنه يصل إلى النجاح، ويمشي خطوات واسعة على درب الخلود.

في كتاب "الخيال السينمائي"، يتناول عصمت عشرات الأفلام السينمائية، يميل فيها أكثر صوب الببلوغرافيا وقليلاً من التحليل، ليُبيّن الأثر الكبير للخيال والشاعرية في الصورة السينمائية التي طالما وضعت الكثير من الأفلام في السينما الخالدة. يهدف الكتاب إلى مراجعة عدد من الأفلام التي تنتمي إلى أصناف سينمائية مُتباينة، بعضها تجاري، والآخر فني، سعياً إلى تسليط الضوء على مُقاربات مختلفة للتخييل في السينما تُناسب كل طرازٍ منها. فقد أثبت غربال الزمن أنّ السمة التي تكتسبُ بها بعضُ الأفلام الخلود؛ هي الشاعرية. ومن ثمّ غدت أفلام عديدة كانت مُتميزة في زمانها عبر نزعتها الطبيعية المُغرقة في الواقعية، آفلة مع مرور الزمن. في المُقابل صمدت أفلام واقعية أخرى رغم قدم عهد إنتاجها، لأنها حفلت بلمسات جمالية شاعرية وسط قتامة البؤس والمُعاناة الإنسانية، مثل بعض أفلام إيليا كازان الشهيرة، وخاصة "ترامواي الرغبة وفيفا زاباتا".

إذاً الشاعرية هي ما يمنح الواقعية عمقاً درامياً وخلوداً يتحديان الزمن. أمّا الواقعية من دون شاعرية فمصيرها الأفول، لأنها تصبح آنية، مستهلكة ومملة. وهذا ما أدركه الكثير من المخرجين، منهم – على سبيل المثال – ديفيد لين، فجمع في بعض أفلامه بمهارة بين سمتي الواقعية والشاعرية مثل فيلمه "لورنس العرب ودكتور جيفاكو" ومثله أدرك أيضاً المخرج وودي ألن الذي أتقن ميزة الشاعرية في الفن، وأتقن تضمينها في بعض أفلامه البارزة وبالأخص فيلم "منتصف الليل في باريس، وياسمين أزرق" الشاعرية التي تمنح الخيال الذي هو السر الأكبر وراء نجاح الفيلم بما في ذلك الفيلم الوثائقي والتسجيلي، لأنّ السينما هنا تصبح عدسة مُكبرة في تضخيمها للواقع.

يذكر الناقد عصمت، أنه في ستينيات القرن العشرين، كان الفصلُ حادّاً بين الأفلام الفنية الموجهة إلى النخبة – كأفلام السويدي إنغمار برغمان، والياباني أكيرا كوروساوا، والفرنسي جان – لوك غودار، والبولندي أندريه فايدا، والروسي أندريه تاركوفسكي – وبين الأفلام الرائجة جماهيرياً، وخاصة أفلام الوسترن والأفلام البوليسية وأفلام المُغامرات. اليوم نستطيع القول إنّ الهوة ضاقت نسبيّاً بين النمطين، فكثير من الأفلام الفنية الجديدة اتسمت بالتجديد الفني، ونجحت في استقطاب اهتمام شريحة أوسع من الجمهور العريض، وحظيت بإقبال على شباك التذاكر، ومن ثمّ نجد كثيراً من الأفلام ذات الرواج الجماهيري نجحت في انتزاع اعتراف النقاد وتقديرهم، فضلاً عن شغف عشاق السينما بها، حتى وإن كانوا من هواة الأفلام الفنية، وهذا حصيلة ما مهد إليه مخرجون كبار مثل إيليا كازان، ديفيد لين، ألفريد هتشكوك، جورج فورد، وغيرهم كثيرون.

وعن اللون في المشهد السينمائي بقول الباحث: إنه مازال بعض عُشاق السينما يمتدحون الأفلام المصورة بالأسود والأبيض، ويضعونها في مرتبة أعلى من الأفلام الملونة، وهنا نذكر أنه عندما ظهرت تقنية لتلوين الأفلام القديمة، وجرى تلوين أفلام لوريل وهاردي الكوميدية وبعض أفلام الكاوبوي القديمة بألوان يغلب عليها اللون البرتقالي، هبّت موجة من الاعتراض في عقر السينما الأمريكية – هوليود- لوقف هذا الاعتداء السافر على كلاسيكيات السينما، وكان النجم جيمس ستيورات أحد أشد أعداء هذا التلوين، لأنه يشوّه جماليات الضوء والظل في العديد من الأفلام الخالدة ذات الجماليات الساحرة في تدرج أطياف الضوء وتأثراتها البصرية التعبيرية في سينما الأسود والأبيض. وفي الزمن الحديث استمرّ بعض المخرجين في العودة إلى زمن الأبيض والأسود، لكن ما لبث أن قدّم بعض المخرجين الكثير من الأفلام الملونة لم تقل شأناً عن تلك القديمة، وإذا كان تلوين الأفلام القديمة أمراً مُنفراً، غير أن اختيار بعض المخرجين تصوير أفلام حديثة بالأسود والأبيض فأمر آخر له مبرراته الفنية القوية غالباً من مضمون العمل الفني نفسه، تهدف إلى إقناع المشاهدين بقدم الزمن وواقعية الأحداث وربما تُضفي طابعاً تسجيلياً ذا مصداقية، لكن الوقوف المتعالي تجاه ألوان السينما، هو موقف غير منطقي، لأنّ نجاح الفيلم السينمائي يعتمد على تكامل الموضوع المُصاغ عبر سيناريو وحوار بارعين مع التمثيل المميز بصدقه وإقناعه، مع الإخراج المُبدع في رؤيته، ومع التقنيات الأخرى مثل التصوير والمونتاج والمؤثرات، بحيث تُحدد هذه العناصر جميعاً قيمة الفيلم ومستواه ومدى خلوده. وكان سيرغي آينشتاين، الذي أبدع في سينما الأسود والأبيض أول من اعترف بأهمية استخدام الألوان في السينما، وكتب باستفاضة عن الجماليات التعبيرية للألوان.

----

الكتاب: الخيال السينمائي

الكاتب: رياض عصمت

الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب