لزمنٍ بدا طويلاً بعض الشيء كاد أن يكون عمل المخرج هامشياً، إذ كان لا يتعدى شغله أمر "تنفيذ" الفيلم، وهذا ما برز واضحاً في عشرات الأفلام الأمريكية. غير أن المخرج أصبح شريكاً في النص، حتى وصل لأن يكون صاحب النص – حكاية الفيلم -، أو ما عُرف فيما بعد بـ "سينما المؤلف" والتي بدأت أول ما بدأت فرنسية، لتنتشر في مختلف سينما العالم، ومنها السينما السورية، التي كانت "سينما المؤلف" أهم نتاجاتها. حتى عندما تطورت هوليود إلى صناعة سينمائية بحتة، لم يحظ المخرجون دائماً بالأهمية التي يتمتعون بها اليوم، فقد كان نجوم الشاشة والمنتجون أهم بكثير من المخرجين.
وحدث التحوّل المفصلي في فرنسا وليس في هوليود، وذلك حين التف عدد من النقاد الفرنسيين أمثال: فرانسوا تروفو، وكلود شابرول، وإيريك رومر حول مجلة "دفاتر السينما" بإدارة تحرير أندريه بازان، في فترة ما بعد الحرب في فرنسا. هؤلاء درسوا وكتبوا عن العبقرية الإبداعية لكلٍّ من: جون فورد، وهارود هوكس، وألفريد هيتشكوك، وأنتوني مان، وسام فولر؛ إذ اعتبروا أولئك السينمائيين الأمريكيين بمثابة مؤلفين مبدعين لأفلامهم منتقدين بذلك بنية صناعتهم السينمائية الفرنسية وأعمالها. ثم بدؤوا صنع أفلام خاصة بهم، والمقصود بذلك أفلام مستقلة بميزانية بسيطة وبأسلوب السينما الأمريكية وما يتمتع به هذا الأسلوب من حرية واسعة في العمل حيث بات يُنظر إليهم كمؤلفين أقطاب إبداعيين للأفلام التي يصورونها.
عن شغل المخرج في الفيلم السينمائي، وتعدد أدواره يدور فحوى كتاب "فكرة المخرج" للمخرج الأمريكي "كين دانسيجر". والمخرج كما يُعرفه كين دانسيجر بأنه المسؤول عن ترجمة النص السينمائي – الكلمات – في معطيات بصرية – اللقطات – يتم تسليمها إلى المونتير من أجل ربطها سويةً لتأخذ شكل الفيلم السينمائي. إلا أن نقاط البداية والنهاية قد تفتقر إلى الوضوح ما لم ينضم المخرج إلى مشروع الفيلم عند كتابة السيناريو، أو عند مرحلة ما قبل الإنتاج، بحيث لا يغيب حضوره عن المشروع حتى بلوغ مرحلة ما بعد الإنتاج، ما يعني اشتراك المخرج بصورة وثيقة في جميع جوانب مرحلة المونتاج. غير أن الأمر الذي يؤكد عليه دانسيجر هو أن المؤلف والمخرج والمونتير يشتركون معاً بهدف واحد، يتمثّل في سرد قصة الفيلم بأسلوبٍ معبّر ومؤثر، مع أن إسهام كلّ منهم لتحقيق هذا الهدف يختلف عن غيره، إذ يستخدم المؤلف الكلمات بينما يستخدم المخرج لقطات التصوير وأداء الممثلين، في حين يستخدم المونتير المعطيات البصرية والصوت.
يتصف المخرجون بتنوع مشاربهم، شأنهم شأن أصحاب المهن الأخرى، سواء كانوا رجالاً أم نساءً، غربيين، أم شرقيين، إسباناً أم أمريكان، فإنّ خصوصيتهم هي نتيجة مزج معتقدات كلّ مخرج وأفكاره وتجاربه واهتماماته الشخصية، فبعض المخرجين عابثون وساحرون مثل فيدريكو فيلليني، وبعضهم جاد كثيراً مثل إنغمار بيرغمان، وبعضهم الآخر يُفضّل أنماطاً سينمائية معينة مثل كلنيت إيستوود، في حين يُعرف غيرهم بتنوع الأنماط السينمائية مثل هارود هوكس، ومخرجين حياديين سياسياً مثل بليك إدواردز، بينما يُفضّل البعض الأخر النوع الكوميدي مثل وودي ألن، وثمة مخرجون معروفون بالتناوب بين الأفلام الجادة والكوميدية مثل بيلي وايلدر وألن نفسه. أي لكلّ مخرج شخصيته المميزة التي تجعل أعماله تختلف عن أعمال غيره من المخرجين، ولذلك فإن جزءاً من المتعة المستمدة من الأفلام السينمائية إنما يرجع إلى تنوعها.
وتأتي فكرة المخرج كتفسير عميق ومُبطن يعمل على توحيد عناصر الإنتاج، فمن خلال إحدى صفات الشخصية الرئيسية – البطل – وأهدافها، يستطيع المخرج تحديد بُعد وجودي أو مادي في مكونات تلك الشخصية، ومن خلال استثمار الفكرة الضمنية المبطنة، يصوغ المخرج مقاربة مكملة لأداء الممثلين واستخدام الكاميرا. وهنا يُميز مؤلف الكتاب بين عدة أنواع من المخرجين، وهم: المخرج الكفؤ الذي يتميز بتفسيره المباشر للنص والذي تندرج فيه الشخصية والسرد الضمني المبطن. لكن توجيه الممثلين وخيارات استخدام الكاميرا تدعم ذلك التفسير، وغالباً ما يتميز المخرجون الأكفاء بأسلوب تصوير نابض بالحياة، لكن هذا الأسلوب لا يزيد من عمق المعنى.
النوع الثاني: هو المخرج الجيد الذي يستخدم تفسير نص السيناريو للوصول إلى تفسير مُركّب للقصة، أما المخرج البارع، فهو الذي يبحث عن تفسير عميق للمعنى الضمني المُبطّن، ويُفضل مقاربة مباشرة وبسيطة وموجزة للمادة الفلمية. وهنا يؤكد مؤلف الكتاب أنه يجب ألا يغيب عن أذهاننا أنه كلما تعددت جوانب وأوجه المقاربة لتصبح مركبة وبعيدة عن البساطة، كلما زاد الجانب الإبداعي والمغامرة التجارية. وفي ملاحقة تلك الأنواع من المخرجين يدرس الباحث نماذج لأربعة عشر مخرجاً بينهم ثلاث نساء فقط، ذلك أن مهنة الإخرج بشكلٍ عام، ومهنة الإخراج السينمائي بشكلٍ خاص، كانت مهنة رجال بالدرجة الأولى، وهذا ما يُفسر قلة عدد النساء المخرجات سواء في مشارق الأرض كما في غربها.
----