يذهب الناقد عادل فريجات بعيداً، إلى الزمن القديم، يفتش عن عيون النصوص العربية، سواء في الشعر، أو في النثر، التراث الأدبي قبل الإسلام، وخلال الإسلام في عصوره الأولى، ليعيد للقارئ المعاصر، قراءة تلك النصوص، من وجهتي نظر نقدية، الأولى كيف قرأ تلك النصوص معاصروها عند تشكلها في زمنها الأول، ثم كيف قاربها الناقد المعاصر بعد مضي قرون على كتابتها، وصولاً إلى ما يشبه النقد المقارن، محللاً، كيف اختلفت وجهات نظر القراءات النقدية، بين الناقد العربي القديم والناقد المعاصر.

يفرد الدكتور فريجات صفحات طويلة في مسألة إشكالية، وهي "حكاية" تأويل النص الشعري القديم بين التراث والمعاصرة، التأويل الذي يراه جهداً لغوياً وفكرياً وثقافياً، يقوم به المفكرون، ونقاد الآثار الفنية، ليعطوا للنصوص التي بين أيديهم معاني لا تقدمها تلك النصوص من الوهلة الأولى. ومن هنا يرى أن التأويل يستدعي إصغاءً كثيراً لما يقوله في باطنه، بما يشبه رحلة قارئ النص من المباشر إلى غير المباشر، هذا التأويل الذي نشأ في البداية في أحضان الفكر الديني، غير أنه اليوم يعدُّ جزءاً من فلسفة التعامل مع الفن بأشكاله؛ حيث يُفضي التأويل إلى استخلاص مرتكزات ثلاثة له، لا ينهض إلا بها وهي: النص المؤوّل، وصانع التأويل، ومآل التأويل، وهنا ثبت للباحث نوعين من النصوص تقع في مهب التأويل، الأولى واضحة تهب معانيها للمتلقي لحظة التقاء وعيه بها، ونصوص إشكالية لا تستجيب للقارئ بطواعية ويسر، ولا تبوح بمكنوناتها، إلا بعد جهدٍ وعناء، وكلما طاوع النص متلقيه وانكشف له، تلاشت الحاجة لتأويله، وكلما كان عصياً على الانقياد، أو كثيفاً جداً، يكتنز نسجه طبقات من المعاني، كان قابلاً للتأويل، ومن هنا كان مشغلة التأويل هي النصوص ذات المعاني المتعددة، ومن هنا أيضاً يصنف الباحث النصوص من هذه الزاوية إلى نصوص مفتوحة، وأخرى مغلقة، ونصوص مستغلقة، النصوص الأولى تلك التي يصل المتلقي على معانيها ودلالاتها على وجه الاحتمال، أما النصوص المغلقة، فهي النصوص ذات المعنى الواحد الوحيد، وهي تقدم معاني تتوازى مع الخطابات المألوفة في ضحالتها، وأما النصوص المستغلقة، فهي التي لا نحصل منها على فائدة حقيقية.

ويرى فريجات أن استعصاء النص على متلقيه، ينجم عن أسباب، قد يكون الزمن واحداً منها، وقد تكون ثقافة الناقد، وسذاجة تناوله للآثار الفنية، وضيق بصيرته، وراء العجز عن فهم مرامي الكاتب، أو معاني النص التي قد لا تدور في ذهن الكاتب، ولكن بنية عمله، وسياق عباراته يوحيان بها، فلا مناص من فتح باب الاجتهاد والتأويل للنصوص القديمة والمعاصرة، ذلك أن الإبداع بحد ذاته ينطوي على حالات يشارك فيها اللاشعور، والعقل الباطن، وأن العبارة المصرّح بها، لها تاريخها وأطيافها، وإيحاءاتها، وأن البنية الفنية العامة قد تكون قابلة للنظر إليها من وجوه متعددة، ولهذا كان المؤوّل الكبير فقيهاً كبيراً ومفكراً كبيراً وناقداً كبيراً، وعلاقة اللغوي الكبير ابن جني بشعر المتنبي معروفة، فقد قال المتنبي: "ابن جني أعلم بشعري مني" وهذا يعني – حسب الفريجات- اعتراف من شاعر العربية الأكبر بأن ناقد الشعر ربما يكون أدرى بأسرار الشعر من الشاعر نفسه، وأعلم منه بوجوه القول المتعددة، ومعاني الإبداع التي توحي بها لغة الشعر والفن.

ومن صور التأويل التي يذكرها الناقد الفريجات للأثر الفني الأبرز الذي امتاز به العرب منذ فجر إبداعهم الفني، وهو الشعر، فقد وجد أن التأويل كان ينصبُّ غالباً على البيت أو البيتين، وقلما ذهب أبعد من ذلك، ومن هؤلاء النقاد التراثيين الذين مارسوا هذا اللون من النشاط: ابن جني، المرزوقي، ابن رشيق، وابن وكيع التنيسي، ويذكر ان ابن جني على سبيل المثال كان أول ناقد فتح الباب في القول: إن مدائح المتنبي في كافور الإخشيدي كانت مبطنة هجاءً، وإن الازدواج فيها كان مقصوداً، فحين قال المتنبي في كافور:

وما طربي لمّا رأيتك بدعةً

لقد كنت أرجو أن أراك، فأطربُ

قال ابن جني: جعلت الرجل ابن زنا أي قرداً، فضحك المتنبي، وكما فعل أبو الطيب بكافور، فعل بفاتك، حين مدحه بقوله:

وقد يلقبه المجنون حاسدهُ

إذا اختلطن، وبعض العقل عُقَّال

فهو يذكر هنا لقب فاتك عرضاً، على الرغم من قبحه، ولكنه يريده قصداً، ولولا جودة طبع المتنبي وصحة صنعته لما ساغ له ذلك. كما كان عبد الرحمن الرومي مفتي الديار العثمانية قد ألف كتاباً ردّ فيه مدائح المتنبي في كافور، إلى هجاء. غير أن فريجات يجد أيضاً صوراً من التأويل السلبي في تراثنا، يدل على فهم قاصر للشعر، أو تحامل منكر على الشاعر.

من الدراسات التسع التي يحويها كتاب عادل الفريجات "نوافذ على تراثنا الأدبي"، أحببت في هذه "العجالة الصحفية" أن أستفيض في مسألة "التأويل" لما في حكاية الباطن الظاهر، لوجوه النص، سواء كان شعراً أم نثراً من إغواء وفي دلالات الحرف والكلمة، والمعنى البعيد والمعاني القريبة، والتي قد تأتي متعاكسة، وربما متناقضة، تاركاً بقية دراسات الفريجات الأخرى التي هي أيضاً من الأهمية بمكان لتأمل مقتني الكتاب، وللإشارة فقط، فقد وقف الدكتور الفريجات طويلاً عند "لامية العرب" القصيدة التي أنشدها الشنفرى قبل الإسلام، ونظر إليها بمنظار مختلف عن مناظير القدماء الذين وجد همهم كان في درس النص بوصفه كلاً متكاملاً، كما وقف عند شاعر إشكالي هو الآخر المتلمس الضبعي، وهو من أشهر الشعراء المقلين، ومن نوافذه التي فتحها على التراث القديم كانت عند أبي تمام، وعند وصيته للبحتري في قرض الشعر، كما فتح نافذة أخيرة، على كتاب عربي الأرومة عالمي الطابع هو كتاب "ألف ليلة وليلة"، ورصده بوصفه جسراً للتفاعل بين أدبنا والآداب العالمية، وذلك في رحلتين له: الأولى نحو الصيرورة، والثانية نحو السيرورة، ماراً بأمثلة كثيرة عن تجليه في آداب الإنكليز والفرنسيين والألمان وآداب أمريكا اللاتينية.

----

الكتاب: نوافذ على تراثنا الأدبي

الكاتب: د. عادل القريجات

الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب