إلى جداران ما قبل التاريخ، يعود الباحث والفنان التشكيلي غطفان حبيب ليبين لنا وبعد بحثٍ طويل، أهمية الجدار بما سجل عليه في أزمنة ما قبل التاريخ السورية، إذ تحصل لديه عمل أقرب إلى شغل الموسوعات، وهو كتابه الموسوم بـ (الرسوم الجدارية في مرحلة ما قبل التاريخ في سورية – 1100 ق.م - 3000 ق.م).
وأهمية الجدار في ذلك الزمن السحيق – ما قبل التاريخ – تكمن في تلك الرسوم الجدارية القديمة؛ في أنها لم تصنع لحاجات يومية فقط، وإنما صنعت لحاجة عقلية وفكرية أيضاً، فما تركته الحضارات القديمة هو تلك المنجزات الفنية التي تدل على مستواها الفكري ودرجة رقيها، كما تدل على تجاوز مبدأ صناعة أشياء من أجل العيش فقط، بل من أجل التذوق الجمالي والتزيين. وهو ما يعطيها تميزاً خاصاً؛ وهو ما كان الدافع للدكتور حبيب للعودة إلى دراستها، ولنعود من خلال ذلك آلاف السنين عبر الزمن علنا نستطيع الولوج إلى عقول راسميها ومعرفة طريقة تفكيرهم ومقدار تطورهم. حيث حدد في البداية أماكن الدراسة، ومن ثم قام الباحث بتحليل تلك الرسومات ومعرفة غاياتها وفك رموزها وربطها مع بعضها في هذه الأماكن المختارة ليؤلف من خلال هذه الرسوم الجدارية القديمة رؤية ولو جزئية عن سورية في الحقبة التي سبقت التاريخ.
إن مصطلح الرسم الجداري؛ هو مصطلح عام يطلق على كل رسم أو زخرفة على الجدران مهما كان نوع الجدار سواء كانت جدران مغائر أو جدران من صنع الإنسان، وهي بشكل عام تقنية قديمة تعود إلى أكثر من ستة وثلاثين ألف سنة قبل الميلاد. ويشير حبيب إلى أن الرسوم الجدارية في سورية تحتوي على عدد من الألوان بمعنى أنها تصويرٌ جداري وليست رسوماً فقط، ولكنه رغم ذلك أطلق عليها رسومات من منطلق التسمية الشائعة لجميع رسوم ما قبل التاريخ في كل أنحاء العالم، ويذكر أن جميع رسوم المغائر في أوروبا والتي تعود إلى فترة ما قبل التاريخ تحمل مساحات لونية أقرب إلى التصوير، ولكنها تسمى بمجملها رسوماً جدارية وليست تصويراً، وذلك لأنها بدأت برسوم خطية بدائية ولا تحمل صفات التصوير بكاملها.
يقول حبيب: صحيح أن أقدم الرسوم المكتشفة في سورية يعود إلى الألف العاشر قبل الميلاد، غير أنه بدأ دراسته من الألف الحادي عشر قبل الميلاد، وذلك من تاريخ التأسيس لانطلاقة ثورة الرموز الفنية في سورية التي شكلت بداية لتلك الرسوم، ولأنه التاريخ التقريبي الذي شهد بداية الفترة الانتقالية للرموز الفنية من الرموز التي تحاكي الطبيعة إلى الرموز الهندسية التي تجرد الطبيعة إلى رموز تدل عليها والتي كانت بدايتها في موقع المريبط، ثم انتقل إلى موقع جعدة المغارة التي حملت رموزاً هندسية، ولكن على نحو أكثر تطوراً، ثم إلى موقع حالولة الذي كان ابتدأ التمثيل الفني فيه هندسياً ثم ما لبث أن تحول إلى رموزٍ تحمل تجريداً فنياً جميلاً للشكل البشري، وختم أبحاثه في موقع بقرص الذي احتوت تمثلاته الفنية التشكيلية على الشكل الحيواني.
وفي خلفية قراءته لهذه الرسومات؛ قام الباحث بدراسة موازية لسورية ما قبل التاريخ، وكيف تشكلت الحضارات السورية القديمة، وتعاقبت على هذه الأرض، كما شملت الدراسة تعريفاً بأهم الفنون التي سادت في تلك الحقبة من الزمن، وأنواع هذه الفنون وكيف تطورت وارتقت وصولاً إلى اختراع الكتابة وبداية التاريخ.
وعندما نقول الرسوم الجدارية ما قبل التاريخ، أي أن الدراسة تبدأ عملياً من تاريخ أقدم لوحة مكتشفة في سورية، أي من الألف العاشر قبل الميلاد والتي تتضمن القطع الفنية الحجرية المكتشفة في موقع الجرف الأحمر في الجزيرة السورية أي العودة إلى العصر الباليوليت الأعلى (35000 ق.م – 12000 ق.م). ففي ذلك الزمن لم تكن هناك لغة مكتوبة للتواصل – إلا في مواقع الجرف الأحمر- وكانت الوسيلة الوحيدة هي الرسم على الجدران لكي يعبر الإنسان من خلالها عما يدور في مخيلته من مشاهدات يتعلق معظمها بمشاهد الصيد وبعض مظاهر الحياة اليومية الأخرى؛ حيث كانت فنون بدائية مجردة تعتمد الرمز على نحو غير مدروس، ولكنها لا تخلو من الحس الجمالي العالي الذي يعتمد أحياناً كثيرة على تبسيط الواقع بأشكالٍ جميلة تحمل ميزات الفن التجريدي الذي لا يختلف كثيراً عن الفن التجريدي المعاصر، ويذكر الباحث ملاحظة مهمة إنه وبالرغم من أن الفن التجريدي بلغ ذروته في مرحلة المادلين (المجدلانية) إلا أن عناصره توضعت في الفن التشكيلي على امتداد كل مرحلة الباليوليت، ومن ثم يمكن القول إنه حتى في المرحلة الابتدائية لم يكن ولا لحظة واحدة تصويراً فوتوكبياً بسيطاً للطبيعة.
ففي المرحلة النطوفية سادت الرموز، وبتقدير الباحث يدل هذا الأمر إلى التطور الفكري اللافت للإنسان، وقدرته على استخدام العمليات العقلية في تحويل ما يراه بطريقة الفن إلى رموز تبسطها وتدل عليها، وأما في المرحلة الخيامية فقد جاءت مسألة أنسنة الفن، أي الانتقال بالفن من الأشكال والتمثلات الحيوانية إلى الأشكال والتمثلات الإنسانية، والتي كانت في مجملها أنثوية، مما يؤكد سيادة الرمزية في تلك الفترة أيضاً، واعتبار الأشكال الأنثوية رموزاً تشير إلى نوع من أنواع العبادات. وهنا يؤكد الباحث على الأهمية الكبرى لجعدة المغارة من كونها الأقدم على مستوى العالم حتى الآن من حيث الجداريات المرسومة على الطين بشكلٍ مباشر، أي على جدار مجهز مسبقاً للرسم عليه، ويعود تاريخها إلى أكثر من (8700) سنة قبل الميلاد، أي أن عمرها يقارب الأحد عشر ألف سنة، وقد رسمت هذه اللوحة الجدارية على دعامة متوسطة في غرفة دائرية كبيرة.
----
الكتاب: الرسوم الجدارية في مرحلة ما قبل التاريخ في سورية – 1100 ق.م - 3000 ق.م