ثمة لافتة قديمة مكتوبٌ عليها "بلدة الطاعون" وثمة سهمٌ آخر يُشير إلى قرية "إيام" في ديربيشاير إحدى مقاطعات شرق (ميدلاندز) في الريف البريطاني، وثمة جملةٌ أخرى وردت في كتاب (طاعون إيام 1665 – 1666) للكاتب جون جي كليفورد.

ذلك ما ستكون بواعث لافتة للصحافية والكاتبة الأسترالية جيرالدين بروكس، لنسج روايةٍ غنية بالكثير من الوصف، والمعلومات المذهلة عن الطاعون الذي أصاب هذه القرية البريطانية في سنةٍ اجتمعت فيها أرقامٌ لعددٍ "شيطاني" -666- كما تروي الكثير من المثيولوجيّات، فكانت (سنة العجائب- "حكاية وباء")، هنا حيث "أفضل الأعمال التاريخية؛ تلك التي تقتات على وجباتٍ صغيرة من السجل الواقعي" على ما تؤكد (بروكس) نفسها، وتضيف إنّ عملها الروائي هذا – مع ذلك – هو عملٌ خياليٌّ مستوحى من قصص حقيقية عاشها سكّان قرية (إيام)، وكانت زارتها الكاتبة سنة 1990، أي بعد حدوث المحنة بما يُقارب من خمسة قرون؛ حيث مايكل مومبليون مُجسداً لكاهن القرية الحقيقي (ويليام مومبسون)، والذي كانت جملته: "حافظت خادمتي على صحتها بفضل الرب، ولو مرضت لاضطررت لغسل ملابسي، وشراء الطعام بنفسي، أو تعرضت للإصابة بالمرض"، التي سجلها له (جون جي كليفورد) في كتابه السابق الذكر. جملة تقول عنها بروكس:"أوحت لي بمحاولة تخيّل حال هذه المرأة، كيف عاشت، وبماذا شعرت"، هذه الشخصية الواقعية التي استعارت الروائية صوتها لتكون الساردة والحائكة لكل نسيج (سنة العجائب).

تبدأ الرواية من آخر مشاهدها، عودة آل برادفورد الاقطاعية إلى القرية بعد انحسار الوباء فيها، وبعد خاتمة المحن، وهي العائلة الغنية التي رفضت الحجر داخل القرية، وفضلت الابتعاد عنها في ذروة محنتها، التي لم يبق فيها سوى الفقراء من عمال مناجم الرصاص، وأصحاب المهن، والمزارعين، وقس القرية، والشخصية الأبرز (آنّا فريث) خادمة القس التي ستنقل لنا كل حكايات المحنة طيلة سنة من الوباء، اطلقت عليها (سنة العجائب).

تبدأ المحنة من فقدان (آنّا) لزوجها (سام فريث) الذي تلاشي كفصل أول الربيع بالجليد، وتحوّل كلُّ شيءٍ إلى كآبةٍ مفرطة، (سام)، الذي كانت رحلة شقائه بهدر أيامه في جوف المناجم منذ فجرها وحتى الغروب، وبعدها ليزهق شبابه عندما انهار المنجم ووضع حدّاً لحياته، تاركاً (آنّا) مع طفليها تنهشها الوحدة، حيث تتعمد اختلاق الضوضاء، لعلها تعثرُ فيه على طوق النجاة من عباب الصمت الجارف، وتواجه الحياة ككلب رعيٍ يواجه كبشاً جامحاً. صمتٌ ستقطعه طرقات (جورج فيغارز) لبابها باحثاً عن مسكن ذات ليلة، والذي سيزهر في عمله كخياط في القرية، لكنه سيزرع بزور الطاعون التي كان يحملها من مناطق بعيدة، والتي ستتجذّر في القرية وتنبت لمدة عامٍ كاملة، وستكون (سنة العجائب) في هذه القرية القصيّة..

إذاً من (جورج فيغارز)، ستبدأ حكاية الوباء حيث سيكون أول ضحاياه، والذي سينتقل رافساً ككنغر أطفالاً ونساءً، وشبّاناً، وقليلاً من العجزة. هذا الوباء الذي سينقسم الأهالي تجاهه فهناك من اعتبر بوابات نجاتهم: صلوات القس، الذي وعد أهل القرية ألا يترك فرداً من أبنائها يموت وحيداً، وهو الذي كان موقناً أنّ الرب أرسل المرض لاختبار تلك الأرواح التي سيخلصها. وهناك (إنيس غاودي) الشابة – العطارة – مع عمتها (ميم غاودي)، اللتان زرعتا حديقة نباتات طبية لأجل مختلف الأمراض، غاودي التي كانت ترى أن جرعةً من الدواء أهم بكثير من تمتمات فارغة لكاهن. وهناك أخيراً الحلاقون – الأطباء الذين كانت أدواتهم تلك الأدوات القذرة التي يجزون بها الرؤوس واللحى، والذين كثفوا خبرتهم بإنه أفضل علاجٍ للطاعون هو الهروب منه بعيداً. فيما (آنّا) مأخوذة بتساؤلات تثقل روحها: لماذا نُحيل غزو الوباء لإحدى الفكرتين: أما اختبار أراده الرب لإيماننا، أو شرٌّ اختاره الشيطان لتخريب العالم، وتضيف جميعنا اعتنق أحد المعتقدين، بينما كفر بالآخر، او اعتبره خرافة، لعلنا أخطأنا الخيارين، وبالدرجة ذاتها. ربما لم يرسل الرب الطاعون، ولم يأتِ به الشيطان، قد يكون مجرد حدثٍ فرضته الطبيعة كأي حجرٍ شاردٍ يرتطم بإصبعِ قدمٍ لعابر سبيل.

من هذه المعرفة وبكلّ هذه المعتقدات لعالم غارقٍ في وباء (1666) في الريف الإنكليزي، ستتلمس (آنّا) طريقها بين المرضى والأموات المحتملين، حيث إنّ يوم السعد، هو ذلك اليوم الذي يمر دون أن يُدفن أحدهم تحت التراب، حتى أصبح ما تحتها يفوق ما عليها. وكما في كلِّ الأوبئة والحروب، حيث ستظهر المحن قتلة وقديسين، بين من يدفن جاره حياً ليستولي على أملاكه، وبين من يستبسل لإنقاذ ما يُمكن إنقاذه. هكذا ستخوض الساردة المستعار صوتها لنسج الرواية أعماق كثيرة لا سيما أعماق البشر، وتغوص في دواخلهم، وتقرأ آثار الوباء على أرواحهم قبل أجسادهم، فبعد أن قتل من عُميت بصيرتهم قبل أبصارهم المرأتين من آل غاودي بتهمة السحر وهما من كانتا تنقذان البشر بخلطات أعشابهما، انتقلت المهمة إلى (آنّا) وصديقتها (إلينور) زوجة القس لمتابعة عمل المرأتين السابقتين، هنا حيث وجدت (آنّا) أنّ المرأة التي تحتاج إلى شراب القريص لتنشيطها، فيما امرأة أخرى قد تحتاج إلى منقوع الناردين لتهدئتها، ومن هنا كان عليها، لا سيما بعد مقتل إلينور، إعادة الاهتمام بحديقة نباتات غاودي، فمن غير الجدوى الاهتمام بحديقةٍ لا نزرع فيها سوى نباتٍ واحد فقط، تماماً كما الأفكار والمعتقدات. عدتها في ذلك حديقة أعشاب وكتاب أو مجلد نفيس هو (قانون الطب) لابن سينا، وهنا أيضاً أمرٌ لافتٌ في تفاصيل هذه المدونة الطويلة لمحنة قريةٍ إنكليزية، إذ سيظهر العرب فيها أكثر من مرة، مرةً بكتاب ابن سينا، ومرةً والساردة تصف تلك البيوت المفعمة بالوباء لا سيما ما تصفه من مقتنيات السيدة إلينور موبيليون وصندوقها الدمشقي، وهي تتلمس قطع الفسيفساء الدقيقة متسائلةً: أي حرفيٍّ ماهر صنعه، أو القماش المغزول بخيوط الذهب والفضة، والذي يطلق عليه البروكار الدمشقي، ومرة ثالثة في هروبها الأخير ووصولها إلى مدينة وهران موطن عرب الأندلس على الساحل الجزائري مع القبطان (باي أحمد) حيث تنضم إلى زوجاته وتشاركه أعماله الطبية.

----

الكتاب: سنة العجائب- حكاية وباء

الكاتبة: جيرالدين بروكس

ترجمة: حنان علي

الناشر: دار المدى