يهشم الروائي المغربي محمد شكري جدار الوهم الذي يقف في ظله الكثير من كتاب السيرة الذاتية، لا سيما العرب منهم، وينبش "بعمق وقسوة" في بنية المجتمع بأظفار مدماة من التجربة المريرة التي يعيشها الفرد، خاصة أبناء الطبقة الفقيرة، في ظل مجتمعات تتعرض فيها روح الإنسان – الفرد للقهر والتحطيم تحت وطأة ذل الفقر والحاجة والمهانة التي ترافقه منذ سني حياته الأولى.
لا يتورع محمد شكري عن تصوير ما يمور به الواقع بعدسة تقطر ألماً ودماً، معرياً المجتمع من خلال إضاءته "الفجة والصادمة" لكنه قد يجد نفسه يخوض في هذا الوحل كنوع من رد الفعل.
الناقدة ناهد صلاح الدين شعبوق تقتحم عالم محمد شكري الروائي في دراسة حملت عنوان "صدمة الكتابة في رواية السيرة الذاتية – دراسة الأهواء في ثلاثية الكاتب المغربي محمد شكري". وتمهد الكاتبة لدراستها برؤية مختصرة ومركزة للسيمائية التي اعتمدتها منهجاً ومدخلاً للتوغل في عالم شكري، والسيمائية باختزال "علم يدرس العلامات وتهتم بدراسة أنساق العلاقات أو الرموز التي بفضلها يتحقق التواصل بين الناس". وتتميز السيمائية في جعلها مجال دراستها كل شيء لأن كل شيء علامة. وسيمائية الأهواء "لا تهتم بالعواطف في إطار علاقتها بالحالة النفسية للذات وإنما في إطار اشتغال هذه العواطف وتحديدها لفضاء البرنامج السردي ككل". والاستهواء هو القوة الانفعالية الكامنة التي يستند إليها خطاب الأهواء لرسم عوالمه.
يقول الناقد التونسي عامر بو عزة: "سيرة محمد شكري الذاتية تفتح الباب على عالم مليء بالإغواء والمغامرة والغموض، عالم تنبثق فيه إرادة الحياة من قاع البؤس والعنف والشقاء يتخذ فيه الوجود معنى التحدي".
أما شخصيات شكري فتعيش على هامش الحياة وليس لها أي دور إيجابي أو فاعل في الحياة، ولهذا هي تنسحب من الحياة إلى المخدرات والكحول والدعارة. وحينما يتجاوز الضغط النفسي حدود القدرة على التحمل، لا يجد الإنسان أفضل من اللجوء إلى مشفى الأمراض العقلية الذي يرى فيه الراوي مكاناً للسكينة ومصدراً للإلهام وهو أفضل من العالم الخارجي. والمرأة في السيرة الذاتية لشكري مضطهدة، ضعيفة، لا حول لها ولا قوة، يكاد دورها يقتصر على تلبية الرغبات الجنسية وانجاب الأطفال. والأب، في هذا السياق السيري، يقوم بدور المدمر الأخلاقي والروحي والنفسي لأسرته.
يذهب المكان عند شكري إلى فضاءات ثلاث تتمثل بالواقعي والروائي والنفسي. وتشير الباحثة إلى أن المدينة "طنجة" يتماهى الراوي/ الروائي معها وفي حالاتها كلها "فيها عاش قسماً من طفولته ومراهقته وشبابه الأول، وفيها تعرف على صعاليك المغرب والعالم. وفيها تفتح وعيه على العالم وسجل تحولاتها وأوجاع بنيها. وفيها قرأ لكبار الكتاب والفلاسفة، وتعرف على أدباء عالميين، وفيها واجه الجنون والانهيارات العصبية. لا نبالغ إذا قلنا إن طنجة هي الراوي –شكري". وفي العموم ترى أن المكان في الثلاثية تسيطر عليه رؤية الراوي الخاصة بسبب تعلقه الشديد به، واقترانه بمرحلة الطفولة، ووصفه له وهو بعيد عنه زمانياً ومكانياً.
ويبني الروائي ثلاثيته على مبدأ التسلسل الزمني في تعاقبه وتتابعه خاصة في الخبز الحافي حيث "يسيطر التسلسل الزمني التقليدي على الجزء الأول من الثلاثية، وإن كان الكاتب يعمد إلى التنويع في الأزمنة داخل الوحدة نفسها التي تشكل لوحات أو مشاهد يمكن النظر إليها على أنها لوحات مستقلة ترتبط بما قبلها وبما بعدها".
أما في الجزأين التاليين "الشطار ووجوه" فإن استخدام الراوي للزمن أصبح "يخضع لمنطق النص أكثر مما يخضع لرغبة الكاتب/ الراوي. ولا يختلف بناء الوحدات الزمنية في هاتين الروايتين عن بناء الوحدات الزمنية في "الخبز الحافي" باستثناء إعطاء هذه الوحدات عنوانات بدلاً من الأرقام. يضاف إلى ذلك أن سرعة السرد تتباطأ فيهما بعد أن كان سريعاً في الجزء الأول".
بطبيعة الحال فإن الإشارة الأساسية في العمل تعبر عن حالة متواصلة من الانفعالات الشديدة التي نجد مرجعاً لها في حياة الكاتب، في مراحلها المختلفة، ولذلك فإنه من الصعب حصر تلك الأهواء بسبب "تجاوزها حد الاعتدال" وهو أمر يميز كتابة شكري هذه. وتتميز الأهواء في الثلاثية كما تحدد الباحثة بالكثافة والامتداد وقوة الانتشار، كما نرى في أهواء الغضب والفضول والحب. ولا نبالغ إذا قلنا إن الأحكام الاجتماعية والأخلاقية التي تناولت عمل شكري، سلباً أو إيجاباً، انبنت على أساس وجود الأهواء وتحكمها بالذات الراوية، ضمن ما تحدده العتبات التي يقيمها المجتمع، ويقيس من خلالها الفائض الكيفي في الانفعال الموجود على جانبي الاعتدال.
هذه الدراسة تتميز برؤية تتسم بطابع خاص في تناولها لأعمال كاتب مثير للجدل وفي الزاوية النفسية والاجتماعية التي تقاربها نقدياً.
----
الكتاب: صدمة الكتابة في رواية السيرة الذاتية