لم يتوقف النقد الأدبي عن الجريان في الضفة المقابلة للإبداع الأدبي عبر سيرورة التاريخ، متخذاً العديد من الأشكال المستندة إلى ثقافة الفرد "الناقد" وذائقته ومعرفته، متجلية في آراء وكتب سعت لرسم خطوط عامة لمفهومي القبح والجمال على حواف الإبداع الأدبي الذي تمثل لمرحلة طويلة في الشعر كنمط أساسي عند كثير من الشعوب.

الكاتب ميشيل جارتي في كتابه "النقد الأدبي في فرنسا.. تاريخ ومناهج 1800-2000" ترجمة الدكتور غسان بديع السيد يذهب إلى توثيق هذا النقد عبر قرنين توضحت خلالهما معالم النظريات النقدية، مع التأكيد، كما يلفت د.السيد في تقديمه للكتاب، إلى أن "تاريخ النقد في فرنسا هو تاريخ النقد في العالم إلى حد كبير، لأن أكثر المناهج النقدية تأسس في فرنسا قبل أن ينتشر خارج حدودها". ويلعب النقد الجامعي دوراً مفصلياً في تطوير النظريات النقدية بعد أن أسس غوستاف لانسون لذلك من خلال تقرير "التاريخ الأدبي" كمنهج جامعي جديد. وكان لدرجة الدكتوراة في الآداب التي أنشئت عام 1810 دور مهم حيث بدء "بالتشدد شيئاً فشيئاً، وبدأ التبحر في العلم، في المجمل، يصبح أكثر وضوحاً وقوة".

وإذا كانت مدام دوستال واعية "لتطور تعبير الأدب" ومنذ عام 1800 بدأت تأخذ بمعناه الأوسع، أي أنه يشتمل على الكتابات الفلسفية وأعمال التخييل وكل ما يتعلق بتمرين الفكر في الكتابات باستثناء العلوم الفيزيائية، فقد مضى تاريخ النقد في تسجيل روايته عبر أسماء وكتابات عديدة لفونتان وبرونتيير وهوغو وسانت بوف وأبيل فيلمان من خلال ثلاثة أشكال: "عقائدي وأنموذجه أرسطو الذي صاغ قوانين عامة، تاريخي عبر المزج بين التاريخ والأدب، وحدسي غايته فتح طرق جديدة ودفع الكتاب إلى ارتيادها".

ويقدم ديزيري نيزار بدءاً من عام 1844 تاريخ الأدب الفرنسي الشخصي جداً النابع من تدريسه لعشر سنوات في المدرسة الطبيعية العليا، وتتميز مقاربته بأربعة نقود تاريخي، فردانية الكاتب، دراسة الأهواء في المأساة، الرابع وهو الأكثر أهمية، في هذا الإطار، وهو الطموح "لضبط رغبات الروح، وتخليص الأعمال من استبداد تعبير لكل شخص ذوقه، وأن يكون علماً دقيقاً أكثر حرصاً على قيادة الروح والحرص على نيل إعجابها".

بالتوازي مع ذلك بدأت محاولات الاقتراب لوضع منهج تجلى برؤية لجان جاك أمبير الذي كان أول من استخدم، عام 1830، تعبير علم أدبي في دراسة تؤسس تاريخاً وتؤسس في الوقت نفسه فلسفة للجمال. وبعد ذلك بعقود قليلة بدأ الاهتمام بعلم النفس "الذي أعطى مكانة لكل أنموذج من الخلق الفني أو الثقافي". ويغدو المؤلف في هذا السياق شخصية معقدة ومتعددة، ليس الأساس في موضوعه جمع المعلومات لكن فهم القوة التي تحركه..

مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين خطا النقد خطوة جديدة كان لغوستاف لانسون فضل كبير فيها بعد ادخاله المقرر الأدبي من خلال عمله "تاريخ الأدب الفرنسي" الذي وضعه عام 1895 وأعيدت طباعته عدة مرات على مدى عقود تالية، ويهدف، بوجه عام، إلى إعادة إعطاء الأدب مكانة مرموقة في مواجهة هيمنة التاريخ، الفرع المعرفي المنافس بصورة كاملة. وكانت إحدى رغبات لانسون "أخذ المعطيات الاجتماعية والسياسية، بالمعنى الدقيق للكلمة التي يعمل ضمنها الكاتب، في الحسبان ضمن التطور نفسه للأدب". وقد هيمن هذا المنهج لسنوات طويلة على النقد الجامعي.

أما الاهتمام بالعمل "بوصفه موضوعاً لغوياً" فقد بدأ يبرز مع العقود الأولى للقرن العشرين من خلال عمل لجان بولهان خص به شعرية فاليري بدراسة تحت عنوان "إذا كان الأدب كذبة؟" ورسمت الكلمات الثلاث "نقد، بلاغة، إرهاب" الخطوط الأساسية لمشروعه. وتميز بولهان نفسه بثقافة لغوية قوية لم تكن موجودة كثيراً بين الأدباء..

وجاء دور الفلسفات الكبرى "الماركسية والتحليل النفسي والوجودية والظاهراتية" ليأخذ النقد مسارات متنوعة وعميقة، عبر الربط معها، حيث ينتمي عمل سارتر النقدي، على سبيل المثال، في مجموعه إلى الفلسفة والأدب، كما هي الحال مع بلانشو وكلاهما روائي. ويشير الكاتب جارتي إلى أن عمل باشلار النقدي مثَل لحظة مهمة في مسار تطوير النقد.

وإذا كان الاطلاع الواسع، والإحاطة التاريخية من سمات العمل، فإن التنقل بين المحطات التاريخية والربط بينها، من حيث المادة موضع النقاش، وتاريخية الأفكار النقدية سمات أخرى مضافة بالنسبة إلى المتخصصين في هذا الحقل. ومن هنا يأتي ما تقدم من سطور، كإشارات مقتصدة من ضمن سياقات متعددة ومركبة، تتسم بالغزارة المعرفية التي يقدمها الكتاب.

----

الكتاب: النقد الأدبي في فرنسا

الكاتب: ميشيل جارت

ترجمة: د. غسان بديع السيد

الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق