وصلت أبحاث كيميائية جديدة إلى طريقة بسيطة تدمر "المواد الكيميائية الخطرة إلى الأبد"، مما يجعل المياه آمنة من جديد، بعد أن ارتفع التلوث فيها إلى مستوى غير مسبوق.

أشارت دراسة جديدة إلى أن مياه الأمطار لم تعد صالحة للشرب في أغلب مناطق العالم، بسبب ارتفاع منسوب أنواع محدّدة من المواد الكيميائية فيها، هذه المواد لا تختفي مع مرور الزمن.

وهناك عائلة من المُركّبات الكيميائية الصناعية تعرف باسم "الفاعلات الفلورية بالسطح" ويرمز لها اختصاراً بـ PFAS وهي غير موجود في الطبيعة عادة، وتنتمي إلى نوع المُركّبات الدائمة، ذلك أن تشكليها لا يتكسر مع مرور الزمن، أي أنها لا تتحلل في الطبيعة، على خلاف معظم المركبات الكيميائية الأخرى.

سحر الكيمياء

وتقول الدراسة السويدية التي نشرتها جامعة ستوكهولم إن هذه المُركّبات عادة ما تكون موجودة في البيوت، في أغلفة المواد الغذائية، في الإلكترونيات ومستحضرات التجميل وأدوات الطهي، ولكنها تشير إلى أنها أصبحت تنتشر اليوم في أغلب مياه الأمطار حول العالم، بما فيها الأمطار في القارة القطبية الجنوبية، رغم بعدها الجغرافي عن مصدر هذه الملوثات.

إذا جعلتك هذه الدراسة تشعر باليأس حول مستقبل المياه التي أصبحت موبوءة تماماً بالملوثات الخطيرة والتي يمكن أن تستمر لآلاف السنين، فهناك أخبار سارة؛ حيث طور الكيميائيون في جامعة كاليفورنيا وجامعة نورث ويسترن طريقة بسيطة لتحطيم ما يقرب من اثني عشر نوعاً من هذه "المواد الكيميائية إلى الأبد" التي كانت إلى ما قبل هذه التجربة غير قابلة للتدمير تقريباً في درجات حرارة منخفضة نسبياً مع عدم وجود منتجات ثانوية ضارة. احتاجت التجربة الجديدة إلى استخدام الكواشف الشائعة في الماء الساخن، حيث تمكن الكيميائيون من "قطع رأس" وتحطيم الـ PFAS تاركين فقط مركبات غير ضارة.

في ورقة بحثية نُشرت حديثاً في مجلة Science، أظهر الباحثون أنه في الماء الذي تم تسخينه إلى درجة 176 إلى 248 درجة فهرنهايت فقط، قامت المذيبات والكواشف الشائعة وغير المكلفة بقطع الروابط الجزيئية في الـ PFAS التي تعد من بين الأقوى المعروفة، وبدأت تفاعلاً كيميائياً "تدريجياً" يقضم الجزيء بعيداً "إلى أن يختفي" كما قال أستاذ الأبحاث المتميز بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس والمؤلف المشارك كيندال هوك.

وأضاف الدكتور هوك أن التكنولوجيا البسيطة ودرجات الحرارة المنخفضة نسبياً ونقص المنتجات الثانوية الضارة، تعني أنه لا يوجد حد لكمية المياه التي يمكن معالجتها في وقت واحد. يمكن أن تسهل هذه التقنية في النهاية عمل محطات معالجة المياه في إزالة الـ PFAS من مياه الشرب.

إن هذه المواد التي يطلق عليها باختصار PFAS - هي فئة من حوالي 12000 مادة كيميائية اصطناعية تم استخدامها منذ أربعينيات القرن الماضي في أواني الطهي غير اللاصقة، والمكياج المضاد للماء، والشامبو، والإلكترونيات، ومواد تغليف الأطعمة وعدد لا يحصى من المنتجات الأخرى. تحتوي الـ PFAS على رابطة بين ذرات الكربون والفلور لا يمكن لأي شيء في الطبيعة أن يكسرها.

عندما تتسرب هذه المواد الكيميائية إلى البيئة من خلال التصنيع أو الاستخدام اليومي لهذه المنتجات، فإنها تصبح جزءاً من دورة مياه الأرض. على مدار السبعين عاماً الماضية، قامت الـ PFAS بتلويث كل قطرة ماء على الكوكب تقريباً، وسمحت لها رابطة الكربون والفلور القوية بالمرور عبر معظم أنظمة معالجة المياه من دون أن تتضرر تماماً. يمكن أن تتراكم هذه المواد في أنسجة البشر والحيوانات بمرور الوقت، وتسبب ضرراً بطرق عديدة ظلت مجهولة لعقود طويلة، وقد بدأ العلماء للتو في فهمها. ترتبط بعض أنواع السرطان وأمراض الغدة الدرقية، على سبيل المثال، بـالـ PFAS.

لهذه الأسباب، أصبح إيجاد طرق لإزالة هذه الملوثات من الماء أمراً ملحاً بشكل خاص. يقوم العلماء بتجربة العديد من تقنيات العلاج، لكن معظمها يتطلب درجات حرارة عالية للغاية أو مواد كيميائية خاصة أو ضوء فوق بنفسجي، وفي بعض الأحيان ينتج عن هذه الطرق منتجات ثانوية ضارة أيضاً وتتطلب خطوات إضافية لإزالتها.

قيادة الـ PFAS إلى المقصلة

لاحظ أستاذ الكيمياء في جامعة نورث ويسترن "ويليام ديشتيل" وطالبة الدكتوراه "بريتاني ترانج" أنه بينما تحتوي جزيئات الـ PFAS على "ذيل" طويل من روابط الكربون والفلور العنيدة، غالباً ما تحتوي مجموعة "الرأس" الخاصة بهم على ذرات الأكسجين المشحونة، والتي تتفاعل بقوة مع الجزيئات الأخرى. قام فريق ديشتيل ببناء مقصلة كيميائية عن طريق تسخين الـ PFAS في الماء مع ثنائي ميثيل سلفوكسيد، المعروف أيضاً باسم DMSO، وهيدروكسيد الصوديوم، أو الغسول، و كانت نتيجة التفاعل أن تم قطع الرأس من هذه الملوثات وترك التسخين وراءه ذيلاً مكشوفاً متفاعلاً.

وقال ديشتيل: أثار ذلك كل هذه التفاعلات اللاحقة، حيث بدأت ذرات الفلور بالانبثاق من هذه المركبات لتكوين الفلورايد، وهو أكثر أشكال الفلور أماناً. على الرغم من أن روابط الكربون والفلور قوية للغاية، إلا أن مجموعة الرأس المشحونة كانت بمثابة كعب أخيل.

لكن التجارب كشفت مفاجأة أخرى: لا يبدو أن الجزيئات تتفكك بالطريقة التي تقول الحكمة التقليدية إنها يجب أن تنهار بها.

لحل هذا اللغز، شارك كل من ديشتيل وترانج بياناتهما مع المتعاونين هوك وطالب جامعة تيانجين "يولي لي" الذي كان يعمل في مجموعة هوك عن بعد من الصين أثناء الوباء. توقع الباحثون أن جزيئات الـ PFAS ستفكك ذرة كربون واحدة في كل مرة، لكن الطالب لي والأستاذ هوك أجريا محاكاة حاسوبية أظهرت أن جزيئين أو ثلاثة جزيئات كربون تقشر الجزيئات في وقت واحد، تماماً كما لاحظ كل من ديشتيل وترانج تجريبياً.

أظهرت عمليات المحاكاة أيضاً أن المنتجات الثانوية الوحيدة يجب أن تكون الفلورايد - غالباً ما يضاف إلى مياه الشرب لمنع تسوس الأسنان - ثاني أكسيد الكربون وحمض الفورميك، وكلها مركبات غير ضارة. وقد أكد ديشتيل وترانج هذه المنتجات الثانوية المتوقعة في تجارب أخرى.

قال هوك: ثبت أن هذه مجموعة معقدة جداً من الحسابات التي تحدت أحدث أساليب ميكانيكا الكم وأسرع أجهزة الكمبيوتر المتاحة لنا. "ميكانيكا الكم هي الطريقة الرياضية التي تحاكي كل الكيمياء، ولكن قبل العقد الماضي لم نكن لنتمكن من التعامل مع مشاكل ميكانيكية كبيرة مثل هذه، وتقييم جميع الاحتمالات وتحديد أي واحد يمكن أن يحدث بالمعدل المرصود".

قال هوك إن "لي" أتقن هذه الأساليب الحسابية، وعمل لساعات طويلة مع ترانج لحل المشكلة الأساسية وهي بالغة الأهمية عملياً.

أدى العمل الحالي إلى تدهور 10 أنواع من الأحماض الكربوكسيلية البيرفلورو ألكيلية (PFCAs) وأحماض الأثير الكربوكسيل البيرفلورو ألكيل (PFECAs) ، بما في ذلك حمض البيرفلورو أوكتانويك (PFOA). يعتقد الباحثون أن طريقتهم ستعمل مع معظم أنواع الـ PFAS التي تحتوي على أحماض كربوكسيلية، ويأملون أن تساعد في تحديد نقاط الضعف في فئات أخرى من هذه الملوثات. إنهم يأملون أن تؤدي هذه النتائج المشجعة إلى مزيد من البحث الذي يختبر طرقاً للقضاء على آلاف الأنواع الأخرى من الـ PFASh.

----

ترجمة عن موقع: Science Daily