الشباب هم عماد المستقبل، للنهوض بالمجتمع في ظل الصراعات والمشكلات التي تحدث نتيجة الحروب أو الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، والتي تؤثر بشكل مباشر في البنية النفسية لهم. ومما لا شك فيه أن ما يتعرض له الفرد من ضغوط الحياة ومحطات الإحباط من عدم القدرة على التوافق الاجتماعي، يؤدي إلى حدوث التلوث النفسي. وكما تتلوث البيئة بالدخان الناتج عن عملية الاحتراق وتعمل على إفساد الجو الطبيعي الصافي، كذلك الإنسان نتيجة المدخلات السلبية التي يتعرض لها سيصاب بالتلوث النفسي (Psychological pollution)، فما هي هذه الظاهرة وما مظاهرها وأسبابها؟

مفهوم التلوث النفسي Psychological pollution

أول من تناول هذا المفهوم راشمان (Rachman) ، وهو مفهوم مستحدث في أدبيات العلوم النفسية والتربوية، واستعير من مفهوم التلوث البيئي، ويشير إلى خلل في البيئة النفسية للفرد بفعل عوامل خارجية تسبب الفوضى والتأثير السيئ في توازنها وتكيفها مع واقعها، وتكون الفوضى ناتجاً عرضياً للتداخل الحاصل بين مظهري (الفكر والسلوك).

كما أنه عبارة عن ردود فعل واستجابات ناتجة عن تشوهات فكرية ومشاعر سلبية تعتري الفرد وتؤثر في أمور حياته، وتدفعه إلى سلوكيات غير مألوفة تتعارض مع الأنظمة والقيم المجتمعية.

وسجلت هذه الظاهرة حضوراً قوياً لدى كافة المجتمعات النامية منها والمتقدمة نظراً لاعتبارها سلوكاً سريع الانتشار شديد العدوى، ومن أخطر المشاعر والسلوكيات التي تهدد البناء النفسي للشخصية الإنسانية والتركيبة الاجتماعية، والتي يتوجب على المجتمعات والأفراد والمؤسسات التصدي لها باعتبارها ظاهرة غير مألوفة ومؤرقة ولها تداعيات خطيرة على النسق القيمي ومعايير الحياة السوية، خصوصاً أن أكثر فئة تتأثر بالمعطيات المستحدثة من أفكار وسلوكيات هي فئة الشباب.

مظاهر ومجالات التلوث النفسي

-التنكر للهوية الحضارية والإساءة إليها وفقدان الشعور بالانتماء: إن كل إنسان في هذا العالم له هويته الخاصة، فهو يعيش في وطن مع أهل وعشيرة ومجتمع، له أفكاره ومعتقداته وتاريخه وعداته وتقاليده واهتماماته واتجاهاته وقيمه. هذه العوامل تجعله يتميز عن غيره من الأفراد في المجتمعات الأخرى، وشعور الفرد بالضياع في مجتمع لا يساعده في فهم من هو، ولا يحدد دوره في الحياة، ولا يوفر له الفرص التي يمكن أن تساعده في الإحساس بقيمته الاجتماعية سيدفعه إلى تنكر هويته الحضارية، والإساءة إليها وفقدان مشاعر الانتماء تجاه وطنه وقيمه وتراثه ورموزه الوطنية والتبلد واللامبالاة بما يجري من أحداث من حوله، تحت مبررات منطقية من وجهة نظره، مما يفقده كينونته واستقلاليته ويشعره بالخوف والعزلة.

-عدم الالتزام بالمعايير والدعوة لتقليد الغرب، أو ما يسمى بالتقمص أو التوحد مع الأنموذج: تعد شريحة الشباب أكثر الشرائح في المجتمعات تأثراً بالثقافات الغربية، حيث يسعى الشباب للقيام بالكثير من السلوكيات التي تتنافى مع العادات والتقاليد والمعايير والقيم العليا للمجتمع العربي، وخاصة عند الذكور، فيسعون إلى الانجذاب نحو المظاهر الغربية (الأجنبية) والدعوة إلى تقليدها. ولا يخفى على أحد خطر سيطرة تلك الثقافات الأجنبية على الفكر والسلوك وما يلحق بها من تأثير سلبي على شخصيتهم وقيمهم الأخلاقية.

-عدم الإحساس بالقيمة وفقدان المعنى والهدف والتفكير بالانتحار: لا يوجد شيء في هذه الدنيا يمكن أن يساعد الإنسان على البقاء حتى في أسوأ الظروف مثل معرفته بأن هنالك معنى وهدفاً لحياته، حيث إن فقدان المعنى والهدف يدل على الانفصال الكلي والجزئي للإنسان حينما يجد أن أفعاله وطموحاته وحاجاته الفردية ليس لها علاقة واضحة مع انشطة الحياة، فيبدأ بالتفكير في اللجوء إلى الإجرام والعنف وتعاطي المخدرات والتفكير في الانتحار. وتلعب المشكلات الاجتماعية دوراً في انتشار هذه الظاهرة، وأهمها البطالة، التي تنتشر بين الذكور أكثر من الإناث.

-الفوضوية: أو ما يسمى باضطراب التواصل حسب الدليل التشخيصي للاضطرابات النفسية في نسخته الرابعة الصادرة عن جمعية الطب النفسي الأمريكية. وينشأ هذا الأسلوب في الأغلب بين فئة الشباب وخاصة الذين يعانون من ضغوطات وحرمان، حيث يلجأ هؤلاء الشباب إلى ممارسة هذا السلوك لتحقيق ذواتهم وتأكيدها، وعُرفت الفوضوية بأنها مجموعة من الاستجابات التي تشترك في كونها تسبب اضطرابات في مجريات الأمور أو تحول دون تأدية شخص ما لوظائفه بشكل أو بأخر ومن مظاهر هؤلاء الشباب ممن يستخدمون السلوك الفوضوي سوء توافقهم النفسي والاجتماعي، والتمرد، والعدوان، ومخالفة الأنظمة والمعايير الأخلاقية والاجتماعية نتيجة البيئة الحتمية وما يحدث في سياقهم الاجتماعي من أوضاع اقتصادية صعبة جعلتهم لا يمتثلون إلى القوانين واللوائح والأنظمة الاجتماعية.

مظاهر التلوث النفسي

يمكن الاستدلال على وجود التلوث النفسي من خلال ملاحظة مجموعة من العرض والتغيرات التي تظهر على سلوك الفرد ومنها: التمرد النفسي (الشعور بالاستياء والغضب ورفض القيم)، القلق الوجودي (الإحساس بالفراغ واللامعنى)، الاندفاعية (عدم القدرة على ضبط النفس)، الأنانية المفرطة (حب النفس وعدم الرضا)، السلوك الفج (غير ناضج انفعالياً)، الأفكار اللاعقلانية.

أسباب التلوث النفسي

إن أهم الأسباب كما وضعها الباحثون في علم النفس للتلوث النفسي هي: العولمة والتسمم الفكري والسياسي، فتعمل الأيديولوجيا المتناقلة من خلال وسائل التواصل الإجتماعي ووسائل الإعلام على نشر سلوكيات تثير في نفس الشباب الرغبة والانجذاب في التغيير والتجريب حتى لو كانت خاطئة.

أما السبب الثاني فهو الضغط الناتج عن المشاكل الاجتماعية وسوء الوضع الاقتصادي، إضافة إلى الحروب التي تؤدي إلى تردي الأوضاع والتشتت والضياع وقلة فرص العمل والبطالة التي ستولد عند الشباب بالذات أفكار مضادة للمجتمع، أما السبب الثالث فيرتبط بالتنشئة الأسرية والأساليب الوالدية غير السوية.

إن ظاهرة التلوث النفسي تستحق البحث والدراسة خصوصاً في صفوف الشباب في ظل الأوضاع الاقتصادية المتردية والحروب وسيطرة عالم التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي، وما يتم تناقله من أفكار وثقافات وسلوكيات مختلفة تدفع الشباب إلى الاقتداء بها ورفض واقعهم والعادات والتقاليد والثقافة المتوارثة. ولا بد للمؤسسات التعليمية الجامعات والمدارس أن تتصدى لها من خلال عقد الندوات والبرامج التدريبية حول التلوث النفسي، وتضمين المناهج الدراسية موضوعات تعزز انتماء الطلبة لهويتهم الحضارية والتحرر من أشكال التبعية والتقليد الأعمى، والعمل على تحسين الوضع الاقتصادي من خلال توفير فرص العمل المناسبة.

----

المراجع:

-التلوث النفسي لدى الطلبة وأثره على مفهوم الذات، عدنان عودة، عمر دره، محمد عريض، مجلة ريحان للنشر العلمي، العدد 40. 2023.

-التلوث النفسي لدى خريجي كليات التربية في الجامعات الحكومية والخاصة العاطلين عن العمل في الأردن، نزار محمد الزعبي، مجلة كلية التربية للبنات، المجلد 29 (3). 2018.

-التلوث النفسي لدى خريجي الجامعات العاطلين عن العمل في محافظة رفح، زهير عبد الحميد النواجحة، ()، مجلة العلوم النفسية والتربوية، (1) 4. 2017.

-Al-Azzam, A.; Al-Shoqran, A. & Al Shammari, N.

(2019). Psychological Pollution Level among Sample of

Irbid University College Students, in Light of Some

Variables. Journal of Education and Practice, 10(20), 68-

78.